26‏/7‏/2015

دورات “كالبريث” لابتزاز كردستان لبغداد – 1- كيف تعمل وكيف وصلنا إلى هنا؟

صائب خليل
 لم تعد كردستان في عهد العبادي – عبد المهدي، هي التي تعاني من تصريف شحنات نفطها المهرب، بل الحكومة العراقية! فآخر أخبار تطورات العلاقة الغريبة بين بغداد وكردستان خبر يقول: "ارتفاع مبيعات نفط كردستان وانخفاض مبيعات النفط العراقي"(1)


(رابط الصورة: http://goo.gl/ICBxNX)



ومحتوى الخبر أكثر استفهاماً من عنوانه، حيث جاء فيه: "ألغت شركتا "بي.بي" و "إيني"، الاثنين، المزيد من عمليات تحميل ناقلات النفط من ميناء جيهان التركي، عازية السبب الى قلة الخام في الصهاريج المملوكة لشركة تسويق النفط العراقية "سومو" بعدما زاد إقليم كردستان شبه المستقل من مبيعاته النفطية المستقلة."

ويتحدث الخبر عن نفط كركوك الذي استولت عليه البيشمركة بقوة السلاح، فسلمه المالكي عسكرياً إلى البيشمركة عند احتلال الموصل، وثبته العبادي سياسياً من الناحية العملية باتفاقه مع كردستان والذي جيء بالعبادي محملا به.

ويذكر الخبر: "وباعت كردستان ما لا يقل عن 12 مليون برميل من النفط من جيهان منذ منتصف حزيران مقارنة مع خمسة ملايين برميل خصصتها لسومو (بغداد) أوائل حزيران قبل أن تتوقف عمليات الشحن إلى حد كبير."

حكومة كردستان تتراجع عن اتفاقيتها وتطالب بشروط جديدة للتعاون في المستقبل




وفي مكان آخر، كتب "تقرير نفط العراق" : "حكومة كردستان تتراجع عن اتفاقيتها المضطربة مع بغداد لمشاركة المردود النفطي، من خلال زيادة كمية النفط المصدر من كردستان مباشرة وتسعى للتفاوض على شروط جديدة." "(2)

وكان هذا التراجع عن الإتفاق السابق عبارة عن إعلان نهاية دورة ابتزاز واكتمال فترة السبات اللازمة لتثبيتها في أذهان الناس، وإعلان بدء دورة جديدة.



جاء في "تقرير نفط العراق" أن كرستان "لن تضمن تقديم النفط الذي تم الإتفاق عليه في ميزانية عام 2015."  وتم إبلاغ المسؤلوين صراحة "بعدم نية كردستان الإستمرار في تطبيق الإتفاقية النفطية وعرضوا إعادة التفاوض مع بغداد من أجل تحديد شروط جديدة للتعاون في المستقبل"!. وقال اشتي هورامي، وزير الثروات الكردستاني: "إذا لم تكن بغداد تستطيع الدفع، ممتاز، دعونا نجد طريقة اخرى. يجب أن نعيد ترتيب علاقتنا."



تقرير نفط العراق: إعادة ترتيب العلاقة جار على قدم وساق




ويقول التقرير “والحقيقة أن إعادة ترتيب العلاقة جار على قدم وساق”، مشيراً إلى الزيادات المطردة في تصدير كردستان للنفط لحسابها والتخفيض المستمر لحصة العراق. أما الإتفاق الجديد الذي تريده كردستان فهو قبول كردستان أن تدفع جزءاً من المصاريف السيادية، مقابل تحكمها بسريان إيرادات النفط، وبالتالي تقرر هي الطريقة التي تحسب بها لبغداد ديونها! ولنلاحظ مثلا أن نيجرفان برزاني قد اقترح سابقاً معاملة كردستان للحكومة كمشتر للنفط.

كيف وصلنا إلى هنا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟




ربما تتساءل عزيزي القارئ، كيف تنقلب الأمور هكذا فيعامل العراق وكأنه جزء من كردستان وليس العكس، وما الذي يدفع بالناس إلى سماع تلك الإهانات دون أن تخشى كردستان أي رد فعل؟

بالتأكيد فأن الإهانة لم تأت بصفعة قوية واحدة، وأن هذا القضم في سلطة بغداد لصالح أربيل لم يأت فجأة، بل كان يسير في خط بياني متصاعد باطراد ونشاط منذ بداية الإحتلال وحتى اليوم. ونحاول في هذه الدراسة أن نفهم مواصفات هذا الخط لنفهم منه كيف وصلنا إلى هنا وكيف تم سلب إرادتنا وسلطتنا بهذا الشكل المدهش لتسليمها لكردستان، وإلى أين نسير، وما هي نهاية هذا الطريق؟



كالبريث




السر يكمن في رجل أمريكي إسمه "بيتر كالبريث"، والذي يبدو أنه تمكن من اللعب بكل اوتار المشاعر الكردية تجاه العرب، وتشكيل الوعي السياسي الكردي بالشكل الشديد العداء للعراق هذا اليوم والمتناغم تماماً مع الأهداف الإسرائيلية في تحطيمه أقتصادياً وعسكرياً وتحطيم شعبه نفسياً وتجزئته إلى أجزاء متناحرة تضمن لإسرائيل عدم الإزعاج وللشركات الأمريكية "سعودية" أخرى، ولكن فقيرة وبشكل أكثر ابتزازاً.

تابع كالبريث فريسته منذ زمن بعيد عن كثب، فقد زار العراق مرات عديدة خلال العقود الماضية في كل المنحنيات التاريخية التي مر بها البلد. فكان متواجداً على أرضه في الحرب العراقية الإيرانية وفي الأنفال وفي انتفاضة 1991 وكذلك مباشرة بعد الإحتلال عام 2003. وكان كالبريث حاضراً جداً في كتابة الدستور العراقي ومؤسساً لما تكشف عنه لاحقاً من الغام شديدة الإنفجار. باختصار، لقد كان بيتر كالبريث موجوداً ومؤثراً لمدة ربع قرن في رسم ما يحدث في العراق، وفي رسم السياسة الأمريكية تجاهه. وإن استمعنا إلى أحد الرؤساء الأمريكان الذي قال منذ منتصف القرن الماضي، فان السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط مسيرة من قبل اللوبي الإسرائيلي ومن يعمل لصالحه.



عمل كالبريث مستشاراً لحكومة كردستان وكان مرشدها في التأثير على تصميم الدستور، وكانت شركة “دي إن او” النفطية تدفع أتعابه الضخمة، وهو الذي الف فيما بعد كتاب "نهاية العراق""(3) وأبدى فيه وجهات نظره في ضرورة إنهاء وحدة العراق (لتجنب الدكتاتورية، كما يقول) وبقاء وحدة كردستان (التي لم يلحظ فيها اية دكتاتورية كما يبدو).

لكن ما يهمنا هنا في هذا الكتاب أنه يشرح لنا فيه كيف أنه قام بهندسة سياسة تعامل كردستان مع بغداد. والمحور الأساسي لهذه السياسة هو انه افهم ساسة كردستان أنهم يجب أن لا يخشوا من إثارة الأزمات مع بغداد والإصطدام بها، لأن كل ازمة ستنتهي بأن تحصل كردستان على مكاسب جديدة. ولذلك يجب أن يرحبوا بالإصطدامات ويخلقونها إن تطلب الأمر.



هكذا ولدت دورات ابتزاز كالبريث كردستان لبغداد أو دورات "اصطدام – تطبيع – إبتزاز – تطبيع"، والتي حققت نجاحاً مدهشاً. للمزيد حول تعليمات كالبريث وارتباطاته يرجى مراجعة كتابات الأستاذ فؤاد الأمير حول الموضوع أو مقالتي : “من أين استوحى قادة كردستان السياسة العدوانية مع العراق”؟ "(5)



ونرى ان خير ما يسلط لنا الضوء على العلاقة المثيرة للدهشة بين بغداد وكردستان هو أن نفهم كيفية عمل آلية الإبتزاز التي أسسها كالبريث، وهو موضوع هذه المقالة بجزئيها. ويجب أن ننبه أن ملف الإبتزاز هذا وإن كان يشمل النفط كأهم ظواهره، إلا أنه لا يقتصر عليه.



دورات ابتزاز كالبريث: "اصطدام – تطبيع – إبتزاز – تطبيع"




أهم ما يميز الخط البياني لابتزاز كردستان لبغداد هو انه:

أولاً تصاعدي بشكل مستمر، ولا يتجه إلى نقطة ليستقر عندها.

وثانياً أنه يتم بشكل  دورات متتالية تكمل كل منها إنجاز الدورة السابقة وتدفع به إلى أعلى.

وثالثاً أن كل دورة تتكون من “أدوار استحالة” مميزة، تتكرر عند كل دورة.



ويمكننا أن نرى بوضوح خطاً متصاعداً لهذا الإبتزاز يبدأ منذ بداية الإحتلال بإقرار أياد علاوي الذي تم تعيينه من قبل الإحتلال بأن حصة كردستان تساوي مرة ونصف أكثر مما تشير إليه جميع الإحصاءات العراقية السابقة وبدون أي مبرر، وانتهاءاً بخبر تصاعد تصدير كردستان وبشكل رسمي والغاء الشركات لشحنات تصدير العراق! كان الطريق بين الإثنين طويلا ومريراً، وكانت خسائره هائلة بكل المعاني فكيف جرت الأمور لنصل حتى هذه النقطة المؤلمة؟



إن تشريح كل من دورات الإبتزاز هذه يوضح كيف أمكن تمرير كل منها بأقل رد فعل ممكن، وكيف أمكن مراكمتها الواحدة فوق الأخرى دون أن يحس الشعب العراقي بحجم الفخ الرهيب الذي يسقط فيه بأيدي أعداءه.



ادوار استحالة دورة كالبريث




يمكننا أن نتخيل عملية الإبتزاز الكلية مجزءة إلى أجزاء منفصلة، ولنمثل كل عملية ابتزاز بشكل قرص من أقراص الطاولي. وتتكون كل عملية ابتزاز من مراحل محددة متتالية، بشكل "دورة"، ولنسم تلك الأقراص بـ "دورات الإبتزاز" أو "دورات كالبريث". ويمكننا أن نرى الصورة العامة للإبتزاز إن وضعنا تلك الأقراص الواحدة منهما فوق الأخرى لتشكل عموداً قاعدته في الأرض الطبيعية للعلاقة بين دولة وأحد أقاليمها، ويمثل رأسه الحالة المشوهة التي وصلت إليها تلك العلاقة.

ماهي تلك تلك العمليات الإبتزازية؟ ما الذي تمثله تلك الأقراص؟ اليكم بعض الأمثلة...

احد هذه الأقراص الأولى كان "تثبيت نسبة الـ 17%" رغم اعتراف برلمان كردستان بأن نسبتهم 12.6%. وقرص آخر يمثل الإعتراف بعقود نفط لم تستشر الحكومة فيها كما يقتضي الدستور، ويمثل قرص ثالث الإعتراف بالبيشمركة ودفع رواتبها رغم أنها مؤسسة لمقاتلة الحكومة أساساً ولا تملك الحكومة أية سلطة عليها ولا تعرف منتسبيها ولا حتى عددها. ويمثل قرص آخر الإذعان الحكومي بشأن موارد الكمارك والحدود، وقرص آخر دفع اقساط مستحقات شركات دون الحصول على وصولات بتلك المبالغ. وقرص آخر الإعتراف الضمني بالأراضي التي احتلتها كردستان من نينوى وأقامت عليها صناعاتها. وقرص آخر يمثل السيطرة على منابع نفط كركوك وطرد الفريق الحكومي الذي كان يعمل بها واستبداله بشركة اجنبية. وقرص آخر يتمثل بالإستيلاء على كركوك نفسها. وقبلها كان هناك قرص تثبيت ملكية الأسلحة العراقية المستولى عليها. وقرص يمثل عدم التزام كردستان بحصة النفط لعام 2013، وآخر يمثل امتناع كردستان عن تقديم برميل واحد عام 2013 و 2014 واستلامها حصتها كاملة بشكل قروض (ومن يستطيع أن يستعيد قرضاً من كردستان؟ المالكي أم العبادي .. أم ربما عادل؟) رغم وجود نص في قانون الميزانية يلزم عقوبتها إن فعلت.. ونكتشف قرصاً آخر في استيلاء كردستان على أكثر من 36 مليار دولار بشكل فوارق حسابات خلال الفترة منذ الإحتلال وحتى 2014، ولا يجري طرح هذه النقطة من قبل الحكومة رغم أن دائرة رسمية حكومية هي من كشف الأمر.. وغيرها كثير..



وهكذا نرى جبلا هائلا من الإبتزاز، يتكون من إبتزازات محددة (شبهناها بأقراص الطاولي) ولو نظرنا بالمجهر إلى كل قرص من هذه الأقراص لوجدنا أنه يتكون بدوره من طبقات أو مراحل أو "أدوار استحالة" محددة ومتكررة بدرجة أو أخرى في كل قرص. ومثلما أن كل قرص يجلس على القرص الذي تحته، فإن ادوار الإستحالة تلك تترابط فيما بينها ويهيء كل منها الأرضية المناسبة للدور الذي بعده لإكمال القرص أو دورة الإبتزاز. ولو أخذنا دورة واحدة من تلك الدورات لوجدناها تتكون من الأدوار أو المراحل التالية:



"مرحلة الإصطدام"-  رفع المطالب لكردستان ورد الفعل الغاضب من الشعب




تنطلق كل دورة ابتزاز جديدة بتنفيذ نصيحة كالبريث الأولى لكردستان بإثارة خلاف، ترفع كردستان من خلاله سقف مطالبها.

وإذا نظرنا إلى آخر تلك الدورات فإننا نجد أنفسنا في "مرحلة رفع المطالب" الحالية. فكتب "تقرير نفط العراق": "حكومة كردستان تتراجع عن اتفاقيتها المضطربة مع بغداد لمشاركة المردود النفطي، من خلال زيادة كمية النفط المصدر من كردستان مباشرة وتسعى للتفاوض على شروط جديدة." وفي مكان آخر نقرأ: وتحدث القيادي حمه صالح  عن "خارطة طريق" مقترحة من قبل الاقليم لحل المشاكل مع بغداد تتضمن عقد اتفاق جديد مع الحكومة العراقية تسمح فيه الاخيرة لاقليم كردستان ببيع نفطه مباشرة الى الخارج مقابل الالتزام بتسليم بغداد ما يقع على الاقليم من نفقات سيادية وحاكمة ضمن حصة الــ17%”"(6)



وتكون مطالب كردستان غالباً غير منطقية ومهينة لبغداد، مثل هذا المطلب، فتثير "الغضب" الشعبي ويتجاوب الإعلام معه أو يتظاهر بذلك لأمتصاصه. ويتظاهر المسؤولون في الحكومة بأنهم مع الشعب، فلا تميز الصادق منهم من الكذاب الذي يسعى للإنحناء المؤقت للعاصفة. فحين تسأل النائب الفتلاوي وزارة النفط عن حقيقة تصدير كردستان للنفط فإن الوزير يبلغها صراحة بأن حكومة إقليم كردستان مستمرة بتصدير النفط عبر ميناء جيهان التركي منذ أيار 2014 دون موافقة أو تنسيق مع الحكومة الاتحادية، معترفاً بأن ذلك يمثل خرقاً دستورياً وهدرا للمال العام، ومتظاهراً بأن له “راي ما” مستقل عن كردستان. لكنه لا يذهب بعيداً، ولا يقول ما يترك أثراً، فيتملص مثلا من الإجابة عما إذا كان تصدير كردستان يتجه لإسرائيل.

هم يؤكدون أن ذلك يخالف الدستور ويتعارض مع قانون الموازنة واتفاقية اربيل التي وقعها العبادي وعبد المهدي"(7) لكنك لن ترى أي إجراء مناسب ضد من يخالف الدستور. تكرر النائب الفتلاوي اعتراضها على مطالب كردستان وما يجري من أمر غريب، وهاهي تطالب هذه المرة مثل السابقات بمعاملة عادلة، وأن لا يغض الطرف عن الموضوع كسابقاته مثل الـ 36 مليار دولار السابقة بذمة الإقليم."(8) وحذرت من استفزاز البصرة"(9). ويمكننا أن نرى في تصريحات الفتلاوي ما يمثل مرحلة غضب الشعب. يختفي رئيس الحكومة عادة في هذه المرحلة دون تصريح يبدي فيه وجهة نظره، او حين يبدو التجاهل التام مشبوهاً، فإنه يصرح بشيء مخفف لا يرتقي إلى حجم القضية. ثم تسيطر وجهة نظر الجانب الكردستاني على الإعلام تدريجياً دون انتباه الناس، وبضمنه الإعلام الحكومي الذي يتم تحييده، وينخفض الإهتمام بالموضوع ، وندخل المرحلة الثانية : مرحلة التطبيع وأجزائها "اليأس" و "التحضير للإستسلام" و "الإستسلام" ونسيان الغضب من التصريحات والمطالب الكردستانية.

"مرحلة التطبيع: اليأس والتحضير للإستسلام ثم الإستسلام"




 يترك الشعب بلا رد فعل من الحكومة ليصيبه الملل والإحساس بعدم الجدوى واليأس، ويبدو الحديث عن الإحتجاج والعدالة تكرار "نظري" لا طائل من وراءه وأمر خيالي.  لكنه يحمل أيضاً علامات اليأس والتحضير للإستسلام، فلا الفتلاوي بكل ناخبيها ولا استفزاز البصرة بكل أهميتها، يبدو قادراً على إيقاف عجلة الإبتزاز الهادرة أو حتى يؤخر سيرها.



بعد بعض الوقت يصيب المحتجين الإرهاق والألم من الأخبار والتحليلات التي لا تلتفت إليها الحكومة، وتتوقف الكتابة عن ذلك الظلم، وتبدأ عملية تطبيعه في أذهان الناس وتعود سماع اخباره المصممة لتكون حيادية دون عنصر الإحتجاج.. وعندها تأتي المرحلة التالية..مرحلة الإستسلام.

لنلاحظ أن خطاب الفتلاوي أعلاه رغم غضبه، يحمل في طياته عنصر الإستسلام والإتجاه إليه. فهي تشير ببساطة إلى أن الـ 36 مليار قد تم طمرها وتم تطبيع الإستيلاء عليها وانتهت، وما يقلقها هو الجديد الذي ينتظر أن يستولى عليه وما يتم تثبيته من ابتزاز إضافي. وليس الامر مقصوداً من قبل الدكتورة حنان بالطبع لكن روح اليأس والإستسلام الذي فرض على الشعب العراقي المرة تلو الأخرى في قبول حقيقة الإبتزاز كشيء قدري لا يدري ما يفعله المرء تجاهه، ولا يجد في يده اية أدوات لمقاومته رغم هيكل الديمقراطية الذي بيده، ولا يأمل سوى التكشير عن الأنياب لعل ذلك يردع الإبتزاز الحتمي القادم. لم تكن الفتلاوي لوحدها تماماً، لكن الدعوات الأخرى لمحاسبة كردستان، يتم تجاهلها أيضاً(10) ففي بغداد، يجب أن لا تتعدى التصريحات بيع الكلام، وأن لا ينتج عنها أي أجراء... وفي النهاية يجب أن يكون الإستسلام واضحاً ومتنامياً!



مرحلة الإبتزاز- "الضغط لحل الخلاف" ثم "حل الخلاف":




إن لم تستطع كردستان فرض مطالبها الجديدة بنفسها (كما كان يحدث في زمن المالكي أحياناً)، ووجدت الحكومة حرجاً في الإستجابة لها، يأخذ الإستسلام شكل صمت متوتر. ثم يرتفع فجأة صوت إعلامي كان ينتظر اللحظة المناسبة، هاتفاً بضرورة "حل الخلاف مع كردستان"! ويتكفل بهذه المهمة كتاب اغلبهم يتميز بالتعبية لكردستان من "اليسار الليبرالي" والمجلس الأعلى وكذلك التيار الصدري! ويمكننا ان نلاحظ دائماً اختفاء التناضر في هذا الأمر فقلما نسمع أحداً يطالب كردستان بـ "حل خلافاتها مع بغداد". وتشعر الحكومة بالضغط، أو تتظاهر به حين تكون قد اتفقت مع كردستان وأميركا على كل شيء ولا تنتظر إلا اللحظة المناسبة للتنفيذ. وتلقى هذه الدعوة صدى إيجابياً لدى الشعب المتعب من التوتر، وعندها يأتي الجزء الثاني من عملية  الإبتزاز، وهو "حل الخلاف".

 ... وهكذا يتم التفاوض بين الحكومة وكردستان، ويكون الحل في الوسط (في فترة المالكي) بين الظلم السابق والظلم الأعلى الجديد الذي تطالب كردستان به، وبالتالي فإن الحل يكون اكثر ظلما دائماً.  فمثلا، كانت مطالب كردستان الأولى المعلنة للعبادي أن تسلمه 550 الف برميل في اليوم مقابل حصتها من الميزانية، دون ذكر شيء عن باقي ما تنتجه كردستان من النفط مستقبلا، والذي ترك مستقبله غامضاً. أما "حل الخلاف" المقترح اليوم من قبل الإقليم، فيهدف إلى التقدم خطوة أخرى وإزالة هذا الغموض لصالح كردستان. فكما جاء على لسان القيادي حمه صالح  يتضمن "الحل" عقد اتفاق جديد مع الحكومة العراقية تسمح فيه الاخيرة لاقليم كردستان ببيع نفطه مباشرة الى الخارج مقابل الالتزام بتسليم بغداد ما يقع على الاقليم من نفقات سيادية وحاكمة ضمن حصة الــ17%”. لقد كانت شرعنة البيع المباشر لكردستان لنفطه (والنفط المستولى عليه) في قمة الإشكالات التي سعت كردستان لحلها دون نجاح في فترة المالكي كما سنفصل في حلقة قادمة، وقد تم حل هذه العقبة بخطوتين، تمت الأولى ومازلنا ننتظر الثانية القادمة حتماً.

وبعد وصول العبادي – عبد المهدي الى الحكم (لهذا السبب على الأغلب)، لم تعد الشركات تتحرج من التعاقد لتسويق النفط المهرب من كردستان."(11) بل العكس، صارت الحكومة هي التي تعاني من تسويق نفطها كما بينا في بداية المقالة....



وربما يثير "الحل" بعض الغضب أيضاً بين الناس، لكنهم بفضل المرحلة الأولى التي عودت اسماعهم على العبارات المرفوضة فأن ذلك الغضب قد تقسم إلى مرحلتين وصار احتماله أكثر سهولة، وسرعان ما تهدأ الأنفس وتأتي المرحلة الختامية للدورة،.. مرحلة "تطبيع الظلم"، والضرورية لتهيئة الجو النفسي لدورة الإبتزاز التالية...



ختام الدورة: "مرحلة تطبيع الظلم"




وتتمثل بالهدوء النسبي، وتؤمن ترسب القبول عند المواطن العراقي بالظلم الجديد الذي فرض عليه وزيادة إيمانه بأن لا رجاء في وضعه ولا مفر من ان يقبل ما قدر له وهكذا فأن كل ظلم، يعبد الطريق للظلم الذي سوف يليه ويجعل ابتلاعه أكثر سلاسة وسرعة... فتختتم دورة الإبتزاز بتنظيف الأذهان من مشاعر الغضب، وإعدادها لقبول دورة أخرى وتجنب خطر تراكم تلك المشاعر واحتمال انفجارها.



ولا تستمر هذه المرحلة النهائية عادة إلا بضعة أسابيع، لتعترض كردستان بعدها مرة أخرى وعلى نفس الإتفاق الظالم الذي وقع لصالحها وتقترح علاقة أكثر ظلماً، لتدور دورة ابتزاز أخرى وهكذا...



هكذا وصلنا إلى هنا




هكذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه، وهاهي كردستان تعلن صراحة اليوم بوجه العبادي الذي لا يملك سوى الصمت، أن "الإتفاق النفطي بين كردستان وبغداد سوف ينتهي وأنها لن تصدر النفط بعد شهر أيار" من خلال بغداد. وبعد أن كانت تعتمد الإنكار في الماضي، ها هي تقول صراحة أنها تصدر حالياً ما مجموعه 650 الف برميل في اليوم وتصل عائداتها إلى 900 مليون دولار شهرياً".(12) وأن ما صدرته خلال شهر حزيران (2015) قد بلغ أكثر من 17 مليون برميل، ثم عادت لتقترح شروطاً جديدة على بغداد(13) لتبدأ دورة كالبريث جديدة وبمرحلة ابتزاز أعلى....



إن من يجمع عمليات الإبتزاز عن المدى الذي تم تحقيقه من قبل كردستان ومن يقف وراءها، في صورة واحدة ، يدهش من صمت الشعب ومحدودية الغضب نسبة إلى الكم الهائل من الظلم والخسائر المريعة في المال وفي النفسية وفي تماسك الوطن، وأكثر من ذلك يدهشه عدم إحساس الشعب بحجم الخطر. لكن تلك الدهشة تزول حين نرى أن ذلك السم تم تجريعه للشعب بشكل اقراص صغيرة، قد يثير كل منها الغضب المؤقت، لكن لا يكفي أي منها لأي ثورة أو رد فعل مناسب. فكل خطوة مدروسة لتكون أصغر من أن تهدد برد فعل. ويحصل الشعب على "المساعدة" من قبل الإعلام لينفس عن غضبه أولاً، وليهدأ ثانياً ولينسى ثالثاً و "يطمئن" رغم تفاقم الخطر، ويذعن للمسير خطوة أخرى نحو الهاوية. فكل دورة تنتظر زوال أثر سابقتها قبل أن تبدأ، فلا يتراكم وعي يذكر بما يجري ولا يتم الإحساس باتجاه الخط العام الخطير. ولزيادة الإطمئنان الخادع تلعب أجهزة التجسس على التلفونات المجانية (وغيرها) كمقياس للحالة النفسية للشعب، وترسل التقارير إن كان قد هدأ ونسى بشكل كاف، أم يجب الإنتظار أكثر. وفي الوقت المناسب، تعطي الأجهزة الضوء الأخضر بأن الشعب قد نسى وأنه جاهز لتحمل بدء الدورة التالية، وهكذا يسير “القطيع” المطلوب سلخه، خطوة بعد خطوة نحو المجزرة المعدة له وهو هادئ.



الحلقة التالية ستكون عن مظاهر وآثار تطبيق دورات ابتزاز كالبريث في زمن المالكي والعبادي.



(1) ارتفاع مبيعات نفط كردستان وانخفاض مبيعات النفط العراقي !!-




(3) The End of Iraq summary and reviews


(4) صائب خليل: من أين استوحى قادة كردستان السياسة العدوانية مع العراق؟ -


(5) كردستان تعلن تصدير اكثر من 17 مليون برميل خلال حزيران -


(6) نائب: تصدير الإقليم للنفط بشكل مباشر يخالف الدستور وقانون الموازنة


(7) بالوثائق الفتلاوي: وزارة النفط أبلغتنا بأن كردستان تصدر منذ 2014 دون موافقة المركز 


(8) الفتلاوي: تحذر من “استفزاز” البصرة وتدعو الحكومة إلى معالجة “المهزلة”


(9) نائب: أربيل تصدر 420 ألف برميل يوميا لجهات مجهولة


(10) جلف كيستون توقع عقدا لبيع النفط في إقليم كردستان العراق


(11) كردستان: لن تصدر النفط لصالح بغداد ابتداء من حزيران المقبل


(12) كردستان تعلن تصدير اكثر من 17 مليون برميل خلال حزيران -





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق