3‏/7‏/2015

الضباع والنفط – 1- الجنابي يزوّر الأرقام ويحضر للإنقضاض!



صائب خليل
27 حزيران 2015

تسير الضباع بحذر قرب القطيع وتراقبه طيور الرمم عن كثب، في انتظار كارثة لتهجم...وللشعوب ضباعها التي تنتظر الولائم أيضاً. إنها مقالة طويلة من جزئين، ولكن إن أردنا سلامة وطننا وثرواتنا وأولادنا في هذه الغابة التي يقل فيها الصديق، فلا مفر أن نفهم جميع الزواغير...حتى تلك البعيدة عن اختصاصنا.


*****

في مثل هذا الوقت من عام 2008 كان الشعب يراقب بقلق ويتظاهر ويحتدم الجدال بيننا وبين داعمي أميركا وسياستها، حول معاهدة "الصداقة" الأمريكية، استغلت وزارة الصناعة الفرصة لبيع أهم مصانع القطاع العام للشركات الخاصة فكتبت "الصناعة تخصخص شركاتها بينما ينشغل الشعب بدرء خطر "الصداقة"..."(1)

الضباع الدولية لا تنتظر العواصف، بل تخلقها، وهاهي تعصفنا بداعش ثم تنقلب وتعين حكومة من عندها محملة بأجندتها وأولها اتفاقية النفط مع أربيل! وما إن هدأت العاصفة التي تلت اتفاقية النفط حتى بدأ هذا الوزير يطلق بالوناته عن خصخصة النفط ويختلق القصص عن مساوئ من كان قبله ليخفف الضغط عن سمعته. فتراه يطلق تصريحاً ليعود في اليوم التالي ليصحح "قصده"، ويدفع بدعوة لتغيير العقود إلى "مشاركة إنتاج" ليعود حين يشعر بحرارة الحريق، فينفيها ويؤكد أنه من أشد مؤيدي عقود "الخدمة"، وأخيراً كان تصريحه (2) الوقح الذي عبر عن نيته بإرجاع العراق في ملف النفط إلى ما قبل ثورة 14 تموز وإعادة العراق إلى زمن نوري السعيد وعبد الإله. كما بينت في ردي "عادل عبد المهدي يهاجم الزعيم قاسم ويعّد لـ 8 شباط جديدة"(3).

شاركت حكومة العبادي وبكل صلافة مع السعودية في المؤامرة الأمريكية على بلدها العراق وروسيا، فانخفض سعر النفط لأقل من نصفه وأوقعتنا في أزمة أقتصادية إرضاءاً لأميركا! وبدلا من ان يفتضح العملاء الذين خلقوا الأزمة، سارعوا إلى محاولة استغلالها من أجل المزيد، فكثرت "دعوات إعادة النظر في العقود النفطية بحجة هبوط الأسعار وضرورة "مشاركة" الشركات "بتحمل أعباء ذلك"...." (4، 5، 6). وقبل ذلك كان وزير الثروات الكردستاني قد اوضح النوايا بتصريحه بأن المخطط سيكون تسليم كل مقاليد التصرف بالنفط إلى الشركات الأجنبية وأن تكتفي الحكومة بـ "جني الوارد"، وأنه يأمل "أن يتحقق ذلك خلال سنة واحدة". وفي واشنطن يعد العبادي الشركات برفع أية عقبات "بيروقراطية" تعوقهم.(7) والحقيقة أن العبادي كان يريد إزالة ما أنجزته الإدارات السابقة للنفط في شكل العلاقة مع الشركات، وكانت إزالتها من أسباب المجيء بهذا العميل! كذلك قام هذا الرجل بجولة مكوكية شملت الأردن، وليس عندي أي شك أنه وقع على اتفاقيات استمرار لما فعله المالكي قبله من توجيه المزيد ثروة العراق إليهم ودفعها أبعد، دون العودة للبرلمان.

وتستمر التصريحات فيطلق وزير المالية (أو يطلق باسمه) بالوناً كاذباً عن "رهن نفط البصرة" وينتظر رد الفعل. وقد لا يكون دور الوزير في هذه اللعبة إلا الصمت عنها، فلا دليل على تورط يدين الوزير، ولا هو ينكره، إلا ربما بعد ان يستوفي البالون عمله ويكمل تأثيره، ويجد العراقي نفسه في ضياع تام! وفي هذه الأثناء تسجل ردود افعال الناس بالتجسس على تلفوناتهم وتشتغل الحاسبات لتحديد ساعة الصفر المناسبة للهجوم القادم.

الضباع هاجمت هذه المرة من خلال "خلية نائمة" هي النائب عدنان الجنابي، الذي يرأس "مركز البحوث والدراسات العراقية"، وكان اشتهر عندما كان رئيساً للجنة النفط والطاقة في مجلس النواب، بمواقفه ومبادراته الداعمة لكل مواقف خندق الشركات وكردستان ومنها دعمه لـ "قانون النفط" سيء الصيت، الذي وقفت معه كل ذيول أميركا في مجلس النواب والحكومة، ومنهم جميع نواب كردستان. فأطل عدنان الجنابي علينا اليوم بمقالة بعنوان : "الخسائر والهدر في قطاع الطاقة"(8) نشرها في موقع الإقتصاديين العراقيين، وملخص ما جاء فيها:
1- تأكيد تقرير من وزير النفط عبد المهدي بأن العراق خسر قرابة 14.5 مليار دولار للفترة من 2011 إلى نهاية 2014 (والذي حاول عبد المهدي لاحقاً الإعتذار عن سوء الفهم الذي ورد فيه وأعاد شرح عبارته عن "الفساد الحقيقي والخسائر الكبرى.." الخ، عندما اعترض عليه بعض المختصين، لكن الجنابي لا يشير إلى ذلك).
2- الجنابي يذهب إلى أبعد بكثير من تقديرات عبد المهدي. فيؤكد أن الخسارة الحقيقية هي أكثر مما أورد التقرير بـ "عشرات الأضعاف" وتصل إلى "ترليون دولار" أي الف مليار دولار، وليس 14 مليار فقط!!

ولا بد أن القارئ لهذه الأرقام سيصاب بصدمة عصبية.. ليس فقط لحجم الرقم المهول، ولكن أيضاً كيف يمكن لوزارة أن ترتكب "فساداً" بهذا الحجم وهي التي كانت تحت المراقبة التامة وتميزت بالشفافية العالية المعترف بها دولياً، وكانت مناقصاتها كلها أصولية ومعروضة على الملأ؟ وإذا كان الأمر كذلك لماذا لم يكشف الجنابي وكان قد نصّب رئيساً للجنة الطاقة في البرلمان تلك الفضيحة استجابة لواجبه الرقابي؟ ولم لا يطالب عبد المهدي وعدنان الجنابي بمحاكمة وزير النفط السابق ورئيس لجنة الطاقة في مجلس الوزراء حسين الشهرستاني؟

ما يصدم العقل أكثر هو هذا الفرق في نتيجة الحساب. كيف يتوصل طرفان مسؤولان لحساب أمر محدد، ويكون الفرق بين حسبتيهما بهذا الحجم؟ إذا كان الجنابي يرى أن عمليات الحساب كانت خاطئة، فلماذا لم يبين اين الخطأ وفي أية معادلة كان؟ وهل سيأتي "خبير" آخر ويخبرنا أن الخسائر لم تكن ترليوناً واحداً بل خمسين ترليون، أو 85 ترليون دولار مثلا؟ الحقيقة أن ذلك ليس مضحكاً كما يبدو، فالطريقة التي توصل بها كل من عبد المهدي والجنابي إلى "حلهما" للسؤال تتيح لكل منهما أن يضع الرقم الذي يعجبه! السؤال: ما هي الأسس التي حسب كل منهما بها تلك الخسائر لتعطي نتائج بهذا الشكل المتطرف الإختلاف؟

تعتمد طريقة الرجلين على منطق عجيب هو: "لو اننا انتجنا خمسة ملايين بدلا من مليوني برميل في اليوم وبعناها بسعر كذا، لكنا حصلنا على كذا مليار أكثر، إذن خسائرنا كذا مليار! ويأتي الثاني ليقول: لو اننا "انتجنا" 10 ملايين برميل في اليوم وبعناها بسعر كذا لحصلنا على “كيت” مليار أكثر، إذن خسائرنا “كيت” مليار! وحين لا يحتاج الكاتب أن يثبت إمكانية تحقيق ما يتخيله، فله الحرية المطلقة في ان يضع الرقم الذي يعجبه كإنتاج وآخر كأسعار ليصل إلى ما يريده من رقم كخسائر! هذه ببساطة النقطة الأساسية لحسابي عادل عبد المهدي وعدنان الجنابي، مع إضافة بعض المراوغات التفصيلية الاخرى لإكمال الرقم، مثل حسابات الأشياء مرتين بشكل خفي وغيرها.

سنناقش هذه النقاط ببعض التفصيل لكني أود أن أشير أولاً إلى ردود لأربعة خبراء في النفط على مقالة أو "دراسة" عدنان الجنابي.

كتب حمزة الجواهري معلقاً على دراسة الجنابي(8): "حقا انه جهد يستحق التقدير من الأستاذ الجنابي، وقد لاحظت أنها لم تتعرض بسوء لعقود الخدمة وهذا يحسب للأستاذ الجنابي."
وكما سنرى في بقية هذه المقالة، فأن "جهد" الجنابي كان يتركز على حيل الأرقام. وليس صحيحاً أن الجنابي لم يتعرض لعقود الخدمة لكنه فعل ذلك بحذر تفرضه عليه حراجة هذا المفهوم وسوء سمعة عقود المشاركة، فقام بتمييع الفرق بينهما بالإشارة إلى أن المهم هو محتوى العقد والفساد فيه، رغم أن هيكلية العقد مهمة جداً ايضاً، علماً أن الجنابي لم يبين نقطة واحدة من نقاط الفساد في العقود، ببساطة لأنها غير موجودة، ولان هدف الجنابي لم يكن حقاً محاربة الفساد، بل العكس، محاربة ما لم يكن فاسداً، لتهيئة الطريق للفساد، كما سنفصل ادناه.
اما بالنسبة للقرض الياباني فالجواهري يعلم ان ذلك القرض مشروط بتنفيذ ياباني، وأن الشركات اليابانية تطلب اسعاراً أعلى بكثير من مثيلاتها، بما يجعل القرض حيلة خبيثة والإستفادة منه خاسرة، ولو أن الوزارة السابقة فاسدة وعقودها غير شفافة، لربما كانت قبلت به. ونترك الحكم على موقف الجواهري للقارئ.

الرد الآخر جاء من الكاتب المختص بشؤون الطاقة وليد خدوري بشكل مقالة نشرها في "الحياة" تحت عنوان "خمسة بلايين دولار سنوياً خسائر قطاع النفط العراقي"(9) كانت عبارة عن إعادة نشر لملخص "دراسة" عدنان الجنابي، بدون اي اعتراض أو ملاحظة. وهذا يعني أن الأستاذ وليد خدوري أما بإهمال أو تقصير في التحليل (حيث ان مقالته أقرب ألى الخبر منها إلى التحليل) يتحمل مسؤولية نشر المراوغات التي احتوتها "دراسة" الأخير.

الرد الثالث جاء من د. ثامر العكيلي بمقالة بعنوان "ملاحظات على مقال عدنان الجنابي – سوء الادارة واختيار القادة في قطاع النفط "(10) ونشرت في موقع الإقتصاديين العراقيين، والتي تحتوي تساؤلين مهمين هما: أين كان الجنابي طيلة السنوات التسعة الماضية وأين واجبه الرقابي هو يرأس لجنة الطاقة البرلمانية؟
والسؤال الثاني هو لماذا لم يتم التطرق إلى أي شيء عن كردستان وانعدام الشفافية في عقود نفطه والكميات المهربة التي يعرفها الجميع؟ وهل أن ذلك لا يعتبر فساداً؟ ليوجه الإتهام ذاته إلى عدنان الجنابي نفسه قائلا: "أنا لا أجد فرقا بين السكوت عن الحق والسكوت عن السرقة" مشيراً إلى ما أسماه "مسخرة الإتفاقية الاخيرة بين الوزارة والاقليم".

أما الرد الرابع والأخير الذي احتفظنا به لمسك الختام فكان الدراسة التفصيلية التي رد بها الأستاذ فؤاد الأمير بعنوان  "ملاحظات حول دراسة “الخسائر والهدر في قطاع الطاقة" (11)، والتي بلغت اكثر من خمسين صفحة من التفاصيل والجداول. وأبدى الأستاذ فؤاد الأمير موافقته على بعض النقاط في الدراسة والتي كان قد سبق له أن طرحها في وقتها، في الوقت الذي كان النائب عدنان يصمت عنها تماماً منشغلا بمؤامرات إعداد قانون النفط المناسب للشركات، ثم كشف الأمير مستعيناً بتجربته الطويلة ومتابعاته الدقيقة، الالعاب البهلوانية الرقمية والأكاذيب وتجاوزات الحقائق التي لجأ إليها عدنان الجنابي لإخراج هذا الرقم المهول، ترليون دولار!

دراسة الأستاذ فؤاد الأمير أعلاه تستحق بلا شك الوقت والجهد لدراستها بالتفصيل رغم طولها، وأشير هنا إلى اهم ما فيها من نقاط.

أولاً تفنيد حقيقة إمكانية الوصول بإنتاج النفط إلى الأرقام التي اوردها الجنابي وأوضح استحالتها، وأشار ضمناً إلى أن الجنابي كان كاذباً بإشارته إلى دراسة للسيد ثامر غضبان ليكسب منها مصداقية مزورة، فقال: "ومن المؤكد لم يقدم السيد ثامر غضبان مثل هذه الخطة التي لا يقبلها العقل!!.إنني أعرف السيد ثامر غضبان معرفة جيدة، ونحن صديقان وزميلان. وهو مهندس قدير، وإداري وتخطيطي من الطراز الأول. ولذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعرض خطة في النصف الثاني من سنة 2004 لإنتاج (6) ملايين برميل في اليوم، وتنفذ "خلال سنتين أو ثلاث"!!." مشيراً إلى استحالة ذلك عملياً خاصة في وضع البنية التحتية السيئة للنفط في العراق.

وثانياً ينبه الأستاذ فؤاد الأمير إلى الحيلة الحسابية التي لجأ إليها عدنان الجنابي حين احتسب أن مضاعفة "إنتاج" العراق لنفطه سوف تضاعف مردوده، متناسياً تأثير الزيادة الكبيرة على السعر العالمي. ولا يمكن للجنابي ولا أي مهتم بسيط بأمور النفط، أن يجهل مثل هذه الحقيقة لكثرة ما كتب ويكتب عنها، مثل مقالة د. علي مرزا المعنونة " المنظور الحالي لآفاق إنتاج النفط في العراق وميزان الطاقة العالمي حتى 2040"(12) والتي يقول فيها : "من هذا يتبين أن دخول العراق بهذا الحجم من الإنتاج ينطوي على زيادة كبيرة في العرض النفطي...غير أن نتيجة المنافسة ستكون زيادة العرض بما يتخطى الطلب ومن ثم انخفاض الاسعار العالمية. وبهذا ستعاد ذكريات انهيار الأسعار النفطية في 1986" .
وحسب حسابات الأمير ان رفع "الإنتاج" بالشكل الذي يقترحه الجنابي سيخفض الأسعار بشدة، وسيكون بالنتيجة أن يهدر العراق مليارات البراميل فقط، وبدون ان يعود له أي مردود، وليس ترليون دولار كما حاول الجنابي أن يقنعنا به.

ونبه الأستاذ فؤاد الأمير إلى حيلة أخرى في حسابات عدنان الجنابي، عند احتساب قيمة المشتقات النفطية فحسب الجنابي قيمة ما لم يتم إنتاجه من مشتقات على أنها “خسائر”، دون أن يحسب كلفة النفط الخام الداخل في إنتاجها أو كلفة التصفية والمصافي! والحقيقة هي أنه وبسبب شدة المنافسة، فأن الفرق بين مردود بيع النفط بشكل خام لا يختلف بشكل كبير عن قيمة بيعه كمشتقات نفطية، وهو من أسباب تردد الشركات في إنشاء المصافي، وهو ما يفترض أن يعرفه الجنابي جيداً. إن حساب قيمة المشتقات بهذا الشكل يعني حساب خسارة قيمة النفط مرتين: مرة كنفط خام ومرة كنفط مستعمل للمشتقات. وقد لاحظت أن الجنابي كرر هذه الطريقة الإحتيالية في الحساب في نقطة ثانية حين حسب الفشل في تطوير كفاءة المولدات الكهربائية بطريقة معروفة تجعلها تنتج كمية إضافية من الكهرباء (أو توفر كمية من الوقود) فحسب قيمة الكهرباء الإضافية وحسب قيمة الوقود الموفرة ايضاً!

كذلك يعلم الجنابي اكثر من غيره أن من تسبب في تلكؤ إنشاء المصافي في العراق هو ذات الفريق المنادي بالخصخصة والإعتماد على الشركات الأجنبية، والجنابي على رأس هذا الفريق، وبالتعاون مع الأمريكان الذين عرقلوا في البداية أية تخصيصات للقطاع العام في النفط مثلما حرموا كل القطاع العام الصناعي منها بشكل عام. وبعد ذلك قام هذا الفريق بالضغط على الحكومة لترك المصافي للقطاع الخاص والذي لم ير فيها ارباحاً كافية، وترك الأمر هكذا.

هذه هي إذن محاولات التشويه والتزوير لحقائق النفط التي يقودها عدنان الجنابي وعادل عبد المهدي، ولا تفسير لها إلا أن الضباع بدأت تحد انيابها وهي ترى العراق مثخن الجراح وحان الإنقضاض عليه. سنكمل في الحلقة الثانية وستكون بعنوان : الضباع والنفط -2- ماذا يريدون وكيف نمنعهم؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق