27‏/8‏/2014

فائض القيمة يطارد اقتصاد الإحتيال

صائب خليل
1 أيار 2014

(مناقشة مبسطة لمفهوم وتاريخ “فائض القيمة” ورد الفعل للباحثين الرأسماليين، بمناسبة الأول من أيار)



عندما تحرشت بالإقتصاد لأول مرة قبل بضع سنوات، كان الدافع هو الفضول المشحون بعدم الثقة العام الذي شحنه في مشكوراً البروفسور جومسكي، وبالفعل لم يخب ظني، فقد كانت علامات الإستفهام تتزايد كلما قرأت المزيد وأصررت على معرفة المعاني المحددة للعبارات وانتبهت بدقة إلى تناقضاتها، ووجدت أن هذا العلم قد أسس على الحيل والمراوغات اللفضية ربما أكثر من أي علم آخر في العصر الحديث، وأنه أشبه بالحركات البهلوانية لـ "السحرة" المحتالين مما هو إلى العلم.

إن جملة مثل : "لقد تمكنت الحكومة الجديدة من إنقاذ الإقتصاد في كينيا، إلا أن أوضاع الشعب الإقتصادية تدهورت!!" لا يمكن أن تتواجد في محفل علمي دون أن تثير الكثير من الضحك، لكن أحداً لا يضحك في نادي العصابة. ويشعر المراقب بأن هناك حيلة تحاك لخداعه حين يعلم أن “الناتج المحلي الإجمالي” (GDP) الذي يستعمل كأحد أهم مقاييس الإقتصاد في البلد، قد يزداد إذا أهمل المرء صحته واضطر إلى علاجها بمبلغ كبير يدفعه للمستشفى أو إنه قد ينخفض إن جعلنا طرقنا ممتازة ووعينا الناس بالقوانين وأهمية الأنظمة المرورية بحيث تلاشت حوادث التصادم ولم يحتاجوا إلى إصلاح أو إدامة سياراتهم أو شراء أخرى جديدة لفترات طويلة من الزمن.



ففي العمليات الحسابية للإقتصاد (الرأسمالي) فأن بيع المصنع لسياراته يحتسب كناتج محلي بغض النظر عما كان السبب في ذلك البيع، ويضاف المبلغ المقدم للمستشفى كناتج محلي بينما لا يضاف شيء إذا تمتع المواطن بصحته. وبالتالي فإن كان ما سيدفعه المريض إلى المستشفى، أو لشراء سيارة جديدة، أكثر مما كان “سينتجه” في ذلك اليوم، فأن "الناتج المحلي الإجمالي" سوف يزداد بالحوادث والمرض!



وفي عرف هذا الإقتصاد الغريب فأن "عمل" من يقومون بلعب القمار في البورصة (وليست البورصة إلا كازينو مقامرة بكل معاني الكلمة، وكل ما يقال عن "العلم" فيها أو دراسة احتمالاتها وقوة الشركات، الخ، ليس سوى أكاذيب لا اساس لها، بل أن كل دراسة ومعرفة حقيقية فيها تعني تدميرها وتعتبر غشاً، كأية معرفة مسبقة لأوراق القمار في أي كازينو مقامرة اعتيادي، وأنا مسؤول تماماً عن كلامي هذا، والمجال هنا لا يتسع لشرحه) من مضاربين ومراهنين يعتبر "إنتاجاً" يحصل القائمون به على رواتب عالية، بينما لا يعتبر جهد ربة البيت من الصباح وحتى المساء في تربية الأطفال ومتابعة شؤون الأسرة، "إنتاجاً" – رغم أن الأخير أهم الأعمال الإنتاجية لإدامة المجتمع، بينما لا يغير الأول في أحسن الأحوال، سوى توزيع الثروات ضمن ذلك المجمتع!



كذلك سبق أن كتبنا عن مهزلة اعتبار استخراج مادة ناضبة مثل النفط وبيعه على أنه "إنتاج للنفط". وعلى هذا الأساس فيجب أن نعتبر أخذ الجبنة من الثلاجة وبيعها واستهلاك ثمنها، "إنتاجاً للجبنة"! ولا تتردد الحكومات بأن تفخر بزيادة "إنتاج الجبنة" هذا، وأنها تسعى لتكون الأولى في ("استهلاك") الجبنة هذه، وحرمان أجيالها القادمة منها، كإنجاز إقتصادي! ويجب أن نقبل وفق هذا المنطق، بأننا كلما "أنتجنا" الجبنة، قل ما نملكه منها!



هل نحن إذن أمام "علم" أم أمام "العاب كلمات بهلوانية"؟ إن تأسيس أي علم، ليس في نهاية الأمر إلا محاولة لفهم النظام الذي يدرسه ذلك العلم، سعياً إلى زيادة سيطرتنا على العالم وإثراء حياتنا وزيادة سعادتنا. وأن من نخترعه من عبارات يفترض أن ينفعنا كتجميع مبسيط لحقائق، وخلق مقاييس نقيس بها تقدمنا، ونعرف أين وصلنا في طريقنا إلى تلك السعادة. فدراسة ميكانيكية الحركة من قبل نيوتن جعلتنا نستطيع أن نفهم ونتوقع حركة وسرعة الأجسام تحت تأثير القوة المسلطة عليها، ونسيطر بالتالي على تصرفاتها بما يخدمنا ويزيد سعادتنا. ويعطينا مفهوم "الجاذبية" فكرة عامة مختصرة تساعدنا على فهم ما يجري حولنا وكيف تسقط الأجسام على الأرض.



لكننا نرى هنا بوضوح أن "الناتج المحلي الإجمالي"، أحد المقاييس الأكثر استعمالاً لمستوى إقتصاد أي بلد، لا يصلح بأي شكل لقياس صحة الإقتصاد حقاً، وزيادة رقمه لا تعني بالضرورة أن البلاد على الطريق الصحيح. كما أن "إنقاذ الإقتصاد" ، مثل معظم العبارات المبهمة في الإقتصاد بمفهومه الحديث، لا تعني أي شيء، على الأقل بالنسبة لحياة وسعادة الناس الذين يعيشون في البلاد التي تم "أُنقاذ إقتصادها"! فبماذا ينفعنا هذا "العلم" إذن وكيف ستساعدنا مفاهيمه لحياة أفضل لنا؟



لا شك أنني لا اعرف إلا جزءاً يسيراً منها وليس هناك مجال للإفاضة هنا حتى لتغطية ما أعرفه منها، لكنني وددت أن أعطي فكرة عما يجري حقاً. إنني بلا شك لم أدرس إلا جزءاً ضيئلاً جداً من البحوث الإقتصادية فكيف أسمح لنفسي أن أعطي حكماً عاماً مثل هذا؟ أولاً لأن دراسة الأفكار التي تقدم على أنها "عظيمة" و "مهمة" في الإقتصاد الرأسمالي الحديث تبين في كل مرة أن الخيط الذي يربطها هو السعي للتهرب من الحقائق التي تهدد السلطة الإقتصادية القائمة. وثانياً لأني لست الوحيد في فكرتي عن الإقتصاد الحالي بل يشاركني ذلك إقتصاديون متخصصون يمكننا أن نقرأ مقالاتهم أو نراهم يتحدثون في الفيديو وكلهم يشير إلى نفس الأمر: الإقتصاد الذي نعيش في ظله مبني على الإحتيال والكلمات الفارغة من المعنى بالنسبة للناس التي تعيش تحت تأثيره.



كلما قرأنا المزيد عن هذا "الإقتصاد" ، يمكننا أن نرى بوضوح أن هناك من يخدعنا فلماذا ومتى حدث ذلك؟ أما لماذا فلأن الإقتصاد يضع الكثير من الأشياء الثمينة على طاولة المراهنة، وأن مفهوم الناس عن الإقتصاد سيوحي لها في كيفية ضرورة توزيعها بينهم، ومن المفيد للبعض أن يخدع البعض الآخر لكي يتمكن من أخذ الجمل بما حمل، بينما الآخر مشغول بحل الألغاز والأحاجي التي يضعها البعض الأول ويعقدها فيدوخ بها الثاني ويتراجع عن السعي لفهمها أمام عباراتها الرادعة.

وأما متى حدث ذلك فأتصور أننا لن نجد تاريخاً لم يكن هناك خداع إقتصادي قبله، لكن إن ركزنا على الإقتصاد الحديث فسنجد علامات تاريخية مميزة في طريق هذا التحايل ووصوله إلى المستوى الحالي. ويمكن القول أن دراسات الإقتصاد الحديث كانت منذ قرونه الأولى عباراة عن محاولات لخداع الناس، وإيهامهم أن "الصالح العام" فيما يقولون وأنها دراسات "علمية"، بينما يشير لنا التاريخ أن الشركات المختلفة ونقابات المهن المختلفة والمصالح المختلفة كانت هي التي تؤجر الكاتب الإقتصادي، فتجد هذا "العالم" يكتب عن ضرورة الإنفتاح لأن الشركة التي أجرته يكون الإنفتاح في صالحها، بينما يكتب من أجرته شركة أخرى عن ضرورة الحماية لنفس السبب، ويأتي كل منهما ببراهينة وحركاته البهلوانية اللغوية بكل ما أوتي من براعة، لإثبات أن ما يدعو إليه إنما هو في الصالح العام. والحقيقة أن "الصالح العام" كان بعيداً عن ساحة المعركة، لأنه لا يمتلك المرونة لكي "يؤجر أحداً" للدفاع عنه، ولا يخصص أموالاً لرشوة هؤلاء "العلماء". بقي هذا الصالح العام غائباً تماماً عن كل ذلك التراث الإقتصادي، إلى ان جاء "متطوع" يبحث عن الحقيقة والعدالة وصالح الناس، هو كارل ماركس، ليعيد مراجعة تلك المفاهيم ويحللها ويكشف المزيف منها وينبه الغافلين على طاولة ثروات العالم كيف أنهم يستغفلون في تقسيم غنائمه.



وأهم ما يرتبط باقتصاد ماركس من المفاهيم هو مفهوم "فائض القيمة" الذي يقول ببساطة بأن كل الفرق بين قيمة السلعة المنتجة وبين مجموع تكاليفها، هي من صنع العمل وحده، وبالتالي فهي كلها حصة العامل بلا شريك، وأن رأس المال والمكائن التي يأتي بها صاحب العمل (الرأسمالي) لا تستطيع أن تنتج قيمة (تبادلية) إضافية وبالتالي لا يستحق صاحبها أي ربح، وكل ما يأخذه من ربح هو سرقة وابتزاز لحق العامل، يتباين حسب تباين الظروف وقدرة العمال على التفاوض، لكنه يبقى ابتزازاً.

دعونا نتجرأ ونلقي نظرة سريعة على الأمر كما طرحه ماركس، تاركين التفاصيل لمن يثيره الفضول للمعرفة أكثر. 



في بداية كتابه الشهير "رأس المال" يبين ماركس أن البدء يجب أن يكون بتحليل نوعية الطابوق الذي يتكون منه البناء الرأسمالي، والمسمى بـ "السلعة". وميزة "السلعة" هي أنها تصنع لكي تباع في السوق وليس لكي تستعمل من قبل صانعها. وللسلعة نوعان من القيمة: “القيمة الإستعمالية” التي نعرفها، وتحددها الفائدة التي نجنيها من أمتلاكها واستعمالنا لها، والثانية هي "القيمة التبادلية" والتي تحدد سعرها في السوق. ورغم أن هناك علاقة بين القيمتين، إلا أنهما لا تتطابقان ولا تسيران دائماً معا. فما يحدد "القيمة الإستعمالية" هو مدى فائدتها لنا، بينما يحدد سعر السلعة في السوق، أي قيمتها التبادلية، "كمية العمل اللازمة لإنتاجها"، وليس أي أمر آخر، إن افترضنا عالماً حراً من الإحتكار والضغط والتسلط، وهو ما يفترضه الإقتصاد الرأسمالي.



والفكرة بسيطة، فإذا كان صيد غزالة يأخذ من الصياد عشرة ساعات كمعدل، ويأخذ الصياد ساعة (بافتراض نفس الجهد للتبسيط) لصيد سمكة، فأن صاحب الغزالة لن يبادلها إلا بعشرة سمكات (بغض النظر عن القيمة الغذائية لكل منهما). فلو حاول صياد السمك إقناعه بالإكتفاء بخمسة سمكات، فسيقول له: يمكنني أن أصطاد عشرة سمكات بنفس الوقت الذي كلفني صيد الغزالة، فلماذا أقبل بخمسة؟ والعكس صحيح. وطبيعي أن هناك صياد سريع وآخر بطيء وهناك عامل الحظ والموسم وغيرها، لكننا نتحدث في النظرية الإقتصادية عن "المعدلات" الثابتة للأشياء وليس ظروفها الخاصة، ونتحدث عن مهارة صياد له "معدل" المهارات الخ.



ومن هنا نفهم لماذا لا تسير القيمتان "الإستعمالية" و "ألتبادلية" بخطود متوازية. فقيمة لتر من الماء "الإستعمالية" عالية جداً فعلى تلك السلعة تعتمد الحياة، بينما قيمة جلد الحيوان "الإستعمالية" المستعمل للتدفئة أو لفرش الأرض، اقل بكثير. ورغم ذلك، فإن كان هناك نهر أو نبع قريب وكان الحصول على لتر من الماء يأخذ وقتاً اقل بكثير من الحصول على الجلد، فأن صاحب الجلد لن يقبل بمبادلته بالماء ذو القيمة الإستعمالية الأعلى.



لقد تم إيضاح هذه الحقائق من قبل الإقتصاديين قبل ماركس، مثل آدم سميث وريكاردو وحتى قبلهما أيضاً.  إلا أن اي منهم لم يجرؤ على استنتاج التساؤل المنطقي الذي تطرحه تلك الحقيقة، والمتعلق بكيفية توزيع الثروة بشكل عادل إستناداً إلى تلك الحقيقة! الجميع يتفقون (بوضوح أكثر أو أقل) على أن القيمة المضافة إلتي جعلت السلعة أكثر ثمناً من موادها الأولية، هي قيمة العمل الذي وضع فيها، وبالتالي فان كل تلك القيمة الإضافية يجب أن تكون من حصة من وضع في السلعة ذلك العمل. وإذا اعتبرنا ما يدفع للعامل من أجر كجزء من الكلفة، فأن الجزء المتبقي من فرق السعر، هو "فائض القيمة" الذي يستولي عليه صاحب رأس المال، بغير حق كما يقول ماركس، دون من جاء قبله من الإقتصاديين. ولقد كتب ماركس نصاً موسعاً عن تاريخ نظريات فائض القيمة لدى مختلف الإقتصاديين ومناقشتها، قد تكون قراءته الأكثر صعوبة من بين كتاباته.(1)



لقد مضى على هذه الحقيقة اكثر من قرن ونصف، فلماذا لا يركن إليها؟ الجواب بسيط: لأنها ليست في صالح القوى المتنفذة في العالم.





 ولكن ما هو ليس بسيط هو: كيف ردوا عليها في اقتصادهم؟ هل وجدوا رداً يدحضها أو يهمشها أو يبرر إهمالها؟ كلما قابلت مختصاً بالإقتصاد أو طالب إقتصاد سألته عن رد الإقتصاد الحديث على مشكلة فائض القيمة فلا أجد منه جواباً. وأعود فأسأله إن كانوا قد درسوا ماركس وناقشوا أفكاره، فيأتي الجواب دائماً، إنهم درسوه بشكل عابر كموضوع تاريخي، ولا يوجد في منهج الدراسة مناقشة لأفكاره. ماذا تدرسون إذن؟ كيف يمكن للإقتصاد أن يعمل بكفاءة ويزيد الأرباح... لا نناقش كيف يجب أن توزع تلك الأرباح في النهاية! وسؤال ماركس عن فائض القيمة؟ .......لا يطرح مثل هذا السؤال في منهجنا!



إنه لا يطرح في المناهج الدراسية وتم تجاوزه تماماً لكن الأمر ليس بهذه البساطة في الدراسات الأكاديمية العليا. فهناك لا بد من إيجاد طريقة ما للرد، أو على الأقل ما يبدو على أنه رد، على ذلك التساؤل! لقد قرأت العديد من المحاولات حتى الآن، وكل ما أستطيع قوله أنها ليست سوى أحاييل صممت للتهرب من السؤال الآساسي، والتهمة الأساسية بأن أرباح البشر من العمال والناتجة عن جهدهم وحده، ماتزال تسرق منهم ويستولي عليها من لم يقدم أي شيء له دور في عملية إنتاج الربح.



حاول البعض إثبات أن "رأس المال" له دور في إنتاج الفائض، وأن من يمتلكه له حق في هذا الفائض، وبرهن ماركس أن هذا غير صحيح وأنه يعتمد فقط على حقيقة إحتكار اصحاب رأس المال للمال، وكل احتكار هو تشويه خارج النظام الرأسمالي. فلو امتلك العمال رأس المال اللازم للعمل، لما قبلوا أن يأخذوا رأس المال من الخارج ولما استطاع رأس المال هذا أن يتحرك لإنتاج شيء. ثم يطرح السؤال: من اين جاء رأس المال، وما هو في حقيقته؟ إنه ليس إلا تراكم لعمل سابق. يقول المدافعون عن الرأسمالي أنه امتلكه بجهده ومهارته، بما يسمى بـ "رأس المال الأولي" الذي بدأ الصناعة الرأسمالية. ويقدم ماركس في كتابه أدلة تأريخية على بطلان هذا الإدعاء من خلال الوثائق الإنكليزية بشكل خاص والتي تبرهن أن أثرياء الرأسمالية قد بدأوا حياتهم وجمعوا "رأس مالهم الأولي" ليس بالعمل الشاق وإنما بالإستيلاء على المال العام.



ويطرح هؤلاء محاججة هي أن صاحب المعمل يعمل ايضاً في إدارته وهذا عمل ايضاص. لكن الجميع يعلم أن صاحب المعمل قد لا يفعل ذلك ويبقى يحصل على الأرباح، وحتى إن فعل، فأن أرباحه لا تتناسب مع جهده هذا، ولو انه عين مديراً للمعمل فلن يعطيه ما يحصل عليه هو..



ويطرحون فكرة "المخاطرة برأس المال" كسبب للربح. والجواب على ذلك سهل، فالرأسمالي يأخذ أكثر بكثير من تلك المخاطرة، بدليل أنه يستطيع من خلال تأمين المخاطرة بشركة خارجية يدفع لها مبلغاً بسيطاً (هو قيمة المخاطرة) أن يعمل بلا مخاطرة!



كل هذه وغيرها من الأفكار البسيطة التفنيد، اعطيت من المستفيدين منها أهمية قصوى وحصل أصحابها على التقييم والدرجات العلمية، لأنها كانت تنفع في تبرير الإستغلال وتجاوز المشكلة الأخلاقية في توزيع الأرباح. لكن دراسة توزيع الأرباح جزء لا مفر منه في دراسة أي نظام إقتصادي، وتتعلق بكفاءة ذلك النظام. فليس مقنعاً ان تقول: هذه هي الطريقة للحصول على اعلى مردود، ثم سنوزع ذلك المردود عشوائياً، أو نضعه على الطاولة لتتقاسمه الأطراف كل حسب قوته. لا يمكنك أن تقول ذلك صراحة، لكن هذا ما يحدث في حقيقة الأمر، من خلال مجموعة من الحكايا والحيل "العلمية" المتقنة والعبقرية أحياناً. وكلما سمعت عن اقتصادي عظيم أو شهير، إبحث عن الحيلة التي إبتكرها لتجاوز هذه الحقيقة، ولن تصاب بخيبة أمل في معظم الأحيان. بل وأحياناً كثيرة ستجد أفكاراً مثيرة للدهشة في استخدام العبقرية لتبرير اللصوصية.



أنظر مثلاً إلى أحدى تلك المحاولات والمسماة بـ "كفاءة باريتو" (Pareto efficiency)(2) والتي "اخترعها" الإيطالي ولفريد باريتو الذي ولد عندما كان ماركس يكتب إقتصاده في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أستنتج باريتو أن توزيع المردود يجب أن يتم على جميع الأطراف المشاركة في الإنتاج بحيث أنه إن كان بالإمكان إعادة التوزيع لكي يحصل أحد تلك الأطراف على المزيد من الأرباح، دون أن تتضرر بقية الأطراف، فيجب أن يعاد التوزيع على ذلك الأساس. هذه الجملة الملفوفة على بعضها تشي بما فيها. فهو لا يقول كيف يجب أن توزع الحصص أولاً، لكنه يفترض أنه قد تم التوزيع، وفقط بعد ذلك نراجع العملية ونبحث عن طريقة تزيد فائدة أي من الاطراف، دون أن تقلل من فائدة أي طرف آخر! وفكرة باريتو يمكن أن يكون لها معنى ما، رغم بساطته وسذاجته، عندما نتحدث عن فوائد مختلفة الأنواع بين الأطراف، وأن تؤخذ فائدة من أحد الأطراف لتعطى لآخر يستفيد منها أكثر من الأول، بحيث يستطيع أن يعوض الأول بكل خسارته بطريقة اخرى أو يفيده، فعندذاك يجب أن يتم إعادة التوزيع هذا. والحقيقة أننا في هذه الحالة ربما نستفيد من الفكرة هندسياً، لكننا لسنا بحاجة إلى نظرية باريتو فيما يتعلق بالإقتصاد، لأن ما يتم توزيعه هو المال، ولا تستطيع أن تأخذ مالاً من طرف وتعطيه تعويضاً كافياً دون أن تعيد له المال كله! وإن كان الأمر غير المال، فالأطراف ستكتشف الفكرة ويقوم التبادل دون الحاجة إلى نظرية خاصة. لا ينكر من يتحدث عن نظرية باريتو للتوزيع أنها لا تعني توزيعاً عادلاً، بل أن توزيعاً يعطي "الكعكة" كلها إلى طرف واحد، يمكن أن يعتبر "كفوءاً" في مقياس باريتو، إن لم تجد الأطراف الباقية طريقة لتعويض ذلك الطرف بشكل كامل عما حصل عليه، بطريقة ما لا تشير النظرية إليها، ربما بالقوة!



لماذا حدث كل هذا وكيف وصلنا إلى هذه المهزلة؟ قلنا أن الشركات كانت تدفع لإثراء الباحثين الإقتصاديين الذين يوجهون بحوثهم لمصالحها، وكانت أخلاق هؤلاء لا تجد مشكلة في ذلك، فنجد آدم سميث، منظر الرأسمالية الأول يترك طلابه في الجامعة في منتصف الفصل ليقبل ان يصبح مدرساً خصوصياً لأبن أحد الأثرياء، يتنقل معه حيثما حل وذهب. أما من أصر أن يكون جهده لصالح البشرية وعدالتها، فتقبل أن تتأخر طباعة نتاجه الكبير أحياناً إلى ما بعد وفاته، وأن يكون فريسة للفقر الشديد المذل والمتسبب بالأمراض التي قتلته في النهاية بعد أن قتلت زوجته وبعض أولاده، ولم تكن في منزله قطعة أثاث واحدة تصلح للإستعمال، رغم عبقريته الهائلة وجهده المحير في حجمه، من أجل قتل الحقيقة التي دافع عنها، وهي أن العامل هو وحده من صنع الربح وهو وحده يستحقه كاملاً، وأن فائض القيمة سرقة لا يميز أصحابها عن غيرهم إلا كونهم لصوصاً أثرياء وأصحاب سلطة. لقد حلت اللعنة بالإقتصاد الذي هرب من تلك الحقيقة فتحول إلى علم للحيل والكلمات المظللة الملتوية، وحلت اللعنة أيضاً بالبشرية التي تماهت مع اللصوص الذين سرقوا من عمالها ئفاض قيمة عملهم، فسارت في طريق اللامساواة المتزايدة الذي يسلبها اليوم كرامتها ويهدد وجودها كله.



(1) Economic Manuscripts: Theories of Surplus-Value by Karl Marx 1863
http://www.marxists.org/archive/marx/works/1863/theories-surplus-value/



(2) What is Pareto efficiency ? - Definition from WhatIs.com
http://whatis.techtarget.com/definition/Pareto-efficiency




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق