27‏/8‏/2014

عدم الثقة مبدأً ديمقراطياً وطريقاً إلى الثقة السليمة



صائب خليل
8 شباط 2014

تدور في العراق أزمة ثقة عميقة جداً، تقسم مجتمعه إلى أجزاء متخالفة، بل متعادية، منطلقة من تقسيمات ذات فواصل سياسية وطائفية تتزايد حدتها وعداءها ويزداد عمق الهاوية بينها وبسرعة كبيرة مع الوقت، والكل يصرخ مطالباً الآخرين بالثقة به دون أن يرى ضرورة لثقته بهم. من أين جاءت تلك الأزمة، وكيف أصبح المجتمع العراقي متعادياً قومياً وسياسياً وطائفياً، بل متعادياً حتى ضمن الطائفة الواحدة، إلى حد يقترب من القتال والحرب الأهلية، وما هو الحل؟

في رأيي أن مشكلة الثقة جاءت من مصدرين أساسيين، وفي معرفتهما والتعامل معهما يكمن الحل. هذان المصدران هما 1- الإحتلال وسيطرته على البلاد لفترة طويلة، أتاحت له اختراق مؤسساتها وبناء مؤسسات جديدة تهدف إلى الشقاق الطائفي والسياسي والإستقطاب الشديد الذي يخلق بلاداً يصعب حكمها من قبل أهلها، يتيح له أن يفرض رأيه الذي يعلم ساسته أنهم لن يستطيعون إقناع الشعب به ما لم يسلطون عليه ضغطاً هائلاً متمثلاً في ذلك الشقاق والصراع. و 2- أن الطريق الوحيد إلى بناء ثقة سليمة، مبدأ مجهول تماماً في الثقافة العراقية، بل ان التثقيف يتم فقط في اتجاه نبذه واحتقاره، وهو مبدأ "عدم الثقة"!
مما لاشك فيه أن "الثقة" صفة جميلة وأساسية في الحياة الإجتماعية إلى حد أن الإسلام حكم أن "بعض الظن" إثم. لكن الثقة تتحول إلى حماقة في الحياة السياسية، ما لم تبنى بشكل بطيء وسليم وبحرص وحذر، ومن خلال عملية فحص لسلسلة شكوك موسعة. أن تحويل "الثقة" من عالم الصداقة إلى عالم السياسة، خلل كبير وكثيراً ما يكون منافقاً. وهو مبدأ مناقض للديمقراطية التي تقوم على عكسه تماماً: مبدأ عدم الثقة!
****

"هناك صمام أمان احتياطي يعرفه الحكماء ويصلح لمختلف الأمور، ولكن بشكل خاص لحماية الديمقراطية من التحول إلى دكتاتورية. ماهو؟ إنه "عدم الثقة"!...." -  السياسي والفيلسوف اليوناني الكبير ديموسثين - القرن الرابع قبل الميلاد

****

وبدلاً من ولوج هذا الطريق الى الثقة السليمة، تكتفي كل جهة بالصراخ مطالبة الآخرين بالثقة العمياء غير المدروسة وغير المفحوصة، ولكل شيء! ثقة بالجيش، وثقة بالحكومة وثقة بالطائفة الأخرى، وثقة بالقوميات الأخرى وثقة كل سياسي بالآخر وكل كاتب بالآخر ... لكنها كلها تبقى صرخات فارغة لأنها لن تغير قناعة أي إنسان بمن لا يثق به، ويستمر الشق يغور أعمق وأعمق في بدن المجتمع العراقي، ويستمر الصراخ المطالب بالثقة!

أولاً يجب أن نتحمل الفكرة “غير الجميلة” ويكون واضحاً تماماً لدينا أن الديمقراطية مؤسسة على “الشك” وليس على “الثقة” بالحكام، وأنه من المستحيل بناء ديمقراطية على "الثقة"، لأن "عدم الثقة" متأصل في روح وفكرة الديمقراطية. قبل الديمقراطية منح الشعب الثقة والسلطة (أو سلبت منه عنوة) للملوك، فأساءوا استخدامها المرة تلو المرة، وأدخلو بلدانهم في كوارث ملأت التاريخ. سحب الشعب ثقته في الحاكم تلو الحاكم، وفي كل مرة يتصور الشعب أن الخطأ يقع في الحاكم السابق، فيثور عليه ويأتي بغيره ويعطيه الثقة مجدداً، وما هي إلا بضعة سنوات حتى ينقلب عليه وحشاً. وتكرر الحال كثيراً حتى وعى الشعب أن المشكلة ليست في الشخص فقط، وإنما أيضاً في الطبيعة البشرية، وأن ليس هناك طريقة لترك أي شخص أن يحكم "على الثقة". ولم يهنأ الشعب في التاريخ إلا بعد أن سحب تلك "الثقة" نهائياً، وقرر أن يستلم السلطة بنفسه ويبقيها بشكل دائم تحت رقابته، ووضع "عدم الثقة" مبدأً سياسياً ثابتاً من خلال مجموعة قوانين وتعارفات عديدة، وللضمان، جعل من تلك القوانين والتعارفات "دستوراً" ثابتاً لا يسهل تغييره.

السبب الأساسي في ركون الشعوب إلى "عدم الثقة" هو أنها قد اكتشفت كل على حده، أن السلطة نفسها "مفسدة"، وأنتبه إلى أنها أكبر خطر عليه لأن إفسادها لقادته يجعلهم ينظرون إليه باحتقار حتى لو حاولوا التظاهر بالعكس وتحدثوا عن "الشعب العظيم". إنه يحولهم إلى وحوش مراوغين لا يعودون يشعرون بشعور الشعب ولا بالمسؤولية عن رفاهه وسعادته. وفي النهاية فأن الشعوب التي وعت التجربة، تعاملت مع السلطة كعدو خطير وخبيث يجب تحصين القائد بكل السبل الممكنة ضده، وإبقاء الطريق مفتوحاً لإبعاده إن تطلب الآمر، حتى ولو غصباً. فلطالما جاء إلى الحكم رجل قضى حياته في الدفاع عن الشعب، وما هي إلا بضعة سنوات من التعرض لجرثومة وباء السلطة حتى تنهار مقاومته الأخلاقية شيئاً فشيء، ويتسرب إلى نفسه شعور بالفوقية والعظمة لا يستطيع الصمود أمامه، لكنه يخفيه دائماً كما يخفي المصابون بالإيدز حقيقة مرضهم، فهو يدرك أنه لن يكون في صالحه إن عرف به الناس. لكن إخفاء علامات الإصابة بالمرض ليست سهلة، والشعب المنتبه قادر بمؤسساته الرقابية، إن كانت سليمة، أن يرصد تلك الأعراض ويدق جرس الإنذار. واحتياطاً فقد أوجد الشعب أدواته التي تضمن قدر الإمكان أن لا يتعرض من ينتخبه لجرعة كبيرة من جراثيم السلطة ولفترة طويلة، وأن لا يمنح الثقة إلا بأضيق الحدود التي تتيح للمخول أن يقوم بواجبه. المبدأ الأساسي في الديمقراطية أن يبقى الشعب في المراقبة، ولا يمكن لـ "مراقب" أبداً أن يعتمد الثقة، دون أن يخون واجبه ويتخلى عن دوره!

جاءت الديمقراطية بمبدأ الإنتخابات، الأداة الأولى التي تعبر عن مبدأ عدم الثقة. فلا يجب أن يوثق بأحد مهما كان رفيع الحسب والنسب والذكاء والمال، لتأمين مصالح الشعب، وأن الشعب نفسه يجب أن ينتخب من يأتمنه على مصالحه وبلده ومستقبله. ثم تبين أن الشعب يمكن أن يخطئ الخيار، كما أنه قد يحسن الإختيار، ثم يتغير المختار إلى شخص مختلف تماماً بتأثير مرض السلطة. فقرر الشعب أن يكون الإنتخاب دورياً، يتكرر كل بضعة سنين، يعيد فيها الشعب النظر في من قد انتخبه، تماماً كما يعاد فحص سائقي المركبات كل بضعة سنين للتأكد من استمرار صلاحية اعضائهم وحواسهم للقيادة. فإن كان الشعب راضياً، اعاد انتخاب حاكمه، وإن لم يكن، استبدله بآخر.

ثم تبين أن الحاكم كثرما يحصل على السلطة بالإنتخاب، لكنه يعود فيستخدم تلك السلطة لحرمان الشعب من القدرة على تغييره، فيحول النظام إلى الدكتاتورية! وبعد تجارب مريرة قرر الشعب أن لا يسمح للحاكم أن يمتلك سلطات كافية لقلب النظام. فقسم الشعب السلطات الكبرى التي عرفها في ذلك الوقت بين جهات مختلفة وأن لا يمتلك أي منها السلطة إلا بأضيق نطاق ممكن يتيح لها تنفيذ مهمتها، متبعاً نفس المبدأ الذي كان مقصوراً على الحكام ضد الشعب، مبدأ "فرق تسد"!
ومن الطبيعي أن تغير المجتمع يغير قوة "السلطات" فتضمحل أهمية سلطات وتزدهر سلطات أخرى. ففي الغرب اضمحلت سلطة الكنيسة، وانتعشت بشكل مهول سلطة المال. وقد أدرك المتنورون تلك الحقيقة وحذروا منها كثيراً، فقال أحدهم: "يمكننا في هذا البلد، ان نحصل على الديمقراطية، أو أن نحصل على تجميع للثروة في أيدي قلة من الناس، ولكن لا يمكننا أن نحصل عليهما معاً". والشيء ذاته يقال عن سلطة الإعلام.

 لكن المجتمع كان بطيئاً في رد فعله للتعامل مع السلطات الجديدة وخطرها على بلاده وسلطته على مقدراتها، فبقي يؤكد على فصل السلطات القديمة مثل سلطة الكنيسة التي تراجعت، دون أن يعي بشكل كاف بعد مدى خطورة السلطات المستحدثة فلم تدرج في الدساتير كإحدى السلطات التي لا يجوز تركيزها، وتسبب اليوم أشد الأذى للديمقراطيات الحديثة، في تركيزها للسلطة الفعلية في ايدي القلة المالكة لتلك السلطات بدلاً من (أكثرية) الشعب.

لم يجلس الحكام ساكنين أمام الحواجز التي وضعها الشعب ومفكروه بينهم وبين السلطة الدائمة، او الطويلة، فوجدوا طرقاً للإلتفاف على عملية الإنتخابات دون إلغائها شكلاً، والحصول على سلطات دكتاتورية ودائمة أو طويلة، دون المساس بهيكل النظام الديمقراطي. اكتشفوا أن الحروب يمكن أن تعرقل تغييرهم وتطيل سلطتهم. ووجدوا أن خوف الشعوب من خطر خارجي يلعب دوراً في ذلك أيضاً، ووجدوا أن إقناع الشعوب بأنهم أفضل الموجود وأن لهم ميزات فوق طبيعية ليس مستحيلاً إن سلط كم كاف من الكذب الإعلامي الذكي. واكتشفوا أنهم يستطيعون إزاحة أي مرشح منافس لهم من خلال سلطاتهم السياسية والعسكرية والإعلامية بالتهديد أو بالإهمال والتهميش، أو بالقتل إن تطلب الأمر. كل ذلك لكي يبدو للشعب أن لا بديل له عنهم، وأن كل الآخرين لا يصلحون للقيادة إلا هم، وكأن الله قد خلقهم على غير ما خلق بقية الناس.

صاروا يرون الشعب كعدو منافس لهم على السلطة يجب إعلان الحرب السرية عليه. وعلى قاعدة "أعرف عدوك" برع هؤلاء في دراسة الشعب وردود أفعاله على مختلف أفعال الحكام وخصصوا من الجواسيس لتسمع ما يقوله الناس والخبراء لتحليل ذلك وتحديد متى يمكن توجيه الضربة إلى سلطته ومتى يجب الإنتظار، وما الذي يجب عمله حتى ذلك الحين للتهيئة لتلك الضربة. وجدوا أن سيطرتهم على الإعلام أو المال واستعماله لرشوة المؤثرين على الشعب من إعلاميين وغيرهم، تعني سيطرتهم على ما يفكر الناس به، ويعطل راداراتهم عن تحسس الدكتاتورية الزاحفة بصمت، كما يتحرك الفهد قبل أن ينطلق بكل قوة نحو فريسته، عندما يقرر أنها لن تتمكن من النجاة.

ما العمل؟ هل يجب تحديد حق الحكم لصاحب أعلى سلطة بفترة إنتخابية واحدة؟ عندذاك لن يجد الحاكم دافعاً كافياً ليفي بوعده في تلك الفترة. مرتين؟ تبدو معقولة أكثر، لكن ماذا لو أن الحاكم كان ممتازاً بالفعل ولا يوجد من يماثله في قدرته على خدمة الشعب؟ توصلوا إلى موازنة مفادها أنه لا أكثر من فترتين متتاليتين فقط. أي يجب وجود فترة يحكم فيها حاكم آخر لكي تكسر استمرارية السلطة وتفتح ما قد يكون أحكم الحاكم غلقه لصالحه من أسلحة سرية محتملة، فإن لم يتبين ما يضير، فليعد الحاكم "الممتاز" في الفترة التالية. وهكذا اشترط الشعب وجود فترة انتخابية كاملة يحكمه فيها حاكم آخر لتأمين كسر الدكتاتورية إن كانت قد بدأت تؤسس نفسها، حتى لو كان الحاكم الأول "ممتازاً" في حكمه بتقدير أغلبية الشعب إحتياطاً وحذاراً! هكذا نرى مبدأ "عدم الثقة" مبدأً مقدساً يضحي الشعب من أجله حتى بحقه في الإختيار، ومهما كان واثقاً منه، لأنه قد توصل إليه بعد تضحيات عظيمة لا يريد تكرارها!

"عدم الثقة" هو اللقاح المضاد لكل أنواع الفساد، وليست الدكتاتورية إلا فساداً سياسياً يجب تلقيح المجتمع ضده وتثقيفه بأهمية الدور الذي يلعبه "عدم الثقة" في تأمين مستقبل البلاد، واعتباره حقاً مقدساً في الديمقراطيات، بل وأن ممارسته واجب يقع على عاتق الشعب وعلى ممثليه، ويحرضهم على مراقبة ومساءلة المسؤولين حتى في أقل المجتمعات فساداً كإجراء وقائي. ففي هولندا مثلاً يحق لكل عضو برلمان أن يطالب أي وزير بالإجابة عن أسئلته، وتعطى طرق متعددة كتابية وشفوية لذلك العضو من أجل أداء واجبه الرقابي، (أنظر المادة 68 من الدستور الهولندي) ولا توجد تحديدات من اي شكل، ولم أسمع يوماً بالمحكمة الدستورية الهولندية منعت مساءلة البرلمان لوزير لعدم قناعتها بالأسباب الموجبة، كما يحدث في العراق لحماية الفاسدين الكبار، بل إني لم أسمع يوما بأحد سألها أن تفتي بذلك، لأن اختصاصها تفسير الدستور وليس الحكم على وجاهة أسباب المساءلة!! تلك "الوجاهة" اعتبرت كافية إن اعتبرها أي ممثل للشعب كذلك. ولا يستطيع هؤلاء إساءة استخدامها ضد وزير بريء دون أن تنقلب ضد من يسيء استخدامها فيمنح الوزير فرصة مجانية للدفاع عن نفسه والترويج لسياسة كتلته! فالمساءلة ليست حكماً أو عقوبة أو طلب حجب ثقة أو نزع حصانة لكي يشترط أن تكون دقيقة ووفق شروط معينة، وإنما هي محاولة كشف لحقيقة ويجب أن لا توضع أمامها أية شروط يمكن أن تمنع ممارستها، وتستعمل حجة لحماية الفاسدين. أما ما يحدث في العراق من حماية الكتل الكبيرة لممثليها من المحاسبة، وعلى رأس تلك الكتل كتلة الحكومة التي استخدمتها مراراً ليس فقط لمنع مساءلة ليس رئيس الحكومة فقط، بل وأيضاً لصوص يكادون يكونون مدانين لشدة وضوح التهم المنسوبة إليهم مثل وزير الشباب، فهو سيطرة تامة للفساد وضحك على ذقون أبناء الشعب. ولا تقتصر ممارسة هذا العمل المدان على الحكومة بل تشترك به جميع الكتل الكبيرة من خلال سلطة رئيس البرلمان مثلاً. وهكذا تحولت هذه الكتل إلى عصابات تتقاسم ثروة البلاد بشكل مرعب، رغم تظاهرها بالصراع فيما بينها. فذلك "الصراع" يبقى ضمن إطار إختلاف اللصوص على الحصص، ويشترط أن لا يصيب لصاً كبيراً بأذى!

ليس غريباً أن يطالب الأمناء بالثقة لأنهاعلاقة مريحة تسهل التعامل، لكن ليس من الغريب أيضاً أن تطالب اللصوص بـ "الثقة"، فأن مبدأ "عدم الثقة" عدوها اللدود الذي يعني المحاسبة والمكاشفة. لهذا السبب الأخير يصبح "عدم الثقة" أكثر ضرورة، وجديراً بالتضحية براحة التعامل من أجله، وعلى الشعب أن يدافع عنه بكل ضرواة وعن حقه بمحاسبة المسؤولين بلا إشكال إن أراد الإحتفاظ بسلطته على بلاده. ولكي تكون المحاسبة فعالة ويتمكن الشعب من لعب دوره في المراقبة الأساسية للحكومة فأن "المعرفة" ضرورة أخرى لا بد للشعب من امتلاكها. يرى أحد الباحثين في الديمقراطية أن "الديمقراطية تتطلب ناخباً يعرف الحقيقة." وبين الرئيس الأمريكي السابق روزفلت ان "الديمقراطية لا يمكن أن تنجح ما لم يكن الناخب مهيئاً بالمعلومات ليقرر الخيار الصحيح". فالناخب الذي تنقصه المعرفة لما يدور حوله سيجد صعوبة كبرى خياره أو في القيام بواجبه في مراقبة سياسة الحكومة، كما يعرقل اتخاذ الحكومة للقرار الصحيح، فهل يشعر أحد في العراق بأنه يعرف شيء؟ كيف يمكن للمواطن أن يحكم إن لم يكن يعلم كيف تجري الأحداث ولماذا؟ وكيف يمكن أن ينتخب إن لم يكن قد اتيح له حتى أن يعرف مَن مِن النواب قد صوت على ماذا؟ إن التجهيل الذي مورس على العراقي لم تعرفه حسب تقديري أية ديمقراطية في العالم، بل ربما لم تعرفه معظم الدكتاتوريات في التاريخ! إن السبب في ذلك هو الجهل الأولي للشعب العراقي في حقه بالمعرفة، وهو ما استغله من ائتمنهم على مصالحه أبشع استغلال ممكن، فلا أعرف ولا أتصور أن هناك شعباً آخر يقبل صامتاً أن تحجب عنه قائمة المصوتين على كل قرار في برلمانه! وقد لعب الإعلام العاهر الذي أسسه الإحتلال دوراً أساسياً في هذا التجهيل وتطبيعه في إهمال تام لهذه النقطة، وكأنها غير موجودة، فلا أعرف أحداً كتب عن حق الناخب بمعرفة قائمة المصوتين وعن مشاريع التصويت السري، رغم أني أثرت الموضوع مرات عديدة وبتحذير شديد حتى أني راسلت كل من أعرف حينها من الكتاب للكتابة حول الموضوع، فلم يستجب إلا واحد أو اثنين بمقالة يتيمة واحدة واستجاب عدد أكبر للترويج لسرية التصويت! ها نحن نجد انفسنا على أبواب الإنتخابات، ولا ندري لمن نصوت، لأن اللصوص الذين انتخبناهم قد نجحوا بحجب اتجاهات تصويتهم، والشرفاء منهم أهملوا أن يميزوا انفسهم عن اللصوص ويقدموا تلك القوائم لناخبيهم، رغم أن النائب حنان الفتلاوي كانت قد أثارت الموضوع في المجلس بقوة ضمن صراعها مع رئيس المجلس، لكن قوة اللصوص والمخاتلين حتى ضمن قائمتها، لم تتح لمحاولتها أية فرصة للنجاح، وهكذا تمكن اللصوص من خلط انفسهم بالقلة الشريفة ومنعوا الشعب من تحديدهم! فكيف يطالب بالرقابة من لا تتاح الرؤية له؟ وكيف يطالب بحق السلطة من يتخلى عن حقه في الرقابة؟

هذه "المعرفة"، الضرورية للرقابة تتطلب قدراً كبيراً من الشفافية، والتي هي بدورها ليست سوى إسم آخر لمبدأ "عدم الثقة"، فمن "يثق" لا يحتاج إلى أن "يرى" ما في الداخل، ولا يطالب بـ "شفافية" الأشياء. والشفافية تقف على النقيض تماماً من ثقافة "حرب الملفات" التي تدور بين الحكومة وبقية أجزاء النظام السياسي في العراق، بل بين أجزءا الحكومة نفسها أيضاً. تلك الثقافة التي تهدد خصومها بكشف الفساد بين الحين والآخر ولا ترى أن "التهديد بكشف الفساد، فساد"، كما بينت في إحدى مقالاتي تحت ذات العنوان. فالتستر على الفساد جريمة يعاقب عليها القانون، والتهديد بكشفه إعلان عن امتلاك معلومات يخفيها الشخص ويمنعها عن القضاء ويستخدمها كورقة ضغط ومساومة لصالحه الشخصي، وهذا ليس من حق أي فرد، بضمنهم رئيس الحكومة. إن "افضل سلاح للدكتاتورية هو السرية، لذلك فأن أفضل سلاح للديمقراطية هو الإنفتاح" كما يقول نيلز بور. فما الذي تبنيه حرب الملفات السرية في بلادنا، الديمقراطية الشفافة أم الدكتاتورية السرية؟

من كل هذا نرى أننا بأمس الحاجة إلى خلق واحترام ثقافة "عدم الثقة" إن أردنا الشفافية والمعلومات لبناء الديمقراطية في اي مجتمع. لكن ليس كل شك و "عدم ثقة" ينتج بالضرورة شفافية ومعلومات. فالشك لا يدفع المواطن غير المثقف بشكل سليم، إلى فحص ما لم يثق به ليتأكد من شكوكه ويحلها بالإيجاب أو السلب، ويتخذ قراراً على ضوء نتائج ذلك الفحص، كما يفعل المواطنون في المجتمعات الحديثة، بل يكتفي عادة برد فعل عاطفي بالكراهية وبعض الخوف تجاه المشكوك به، ويكتفي بذلك. الشك يجعله سريع التصديق لأي خبر يسيء لمن يشك به. يجعله يتمنى القضاء عليه أو على الأقل البعد عنه قدر الإمكان، لكنه لن يذهب إليه ليسأله، وليفحص ظنونه بل يعتبرها "نصف صحيحة" مسبقاً، ويحولها إلى "نصف إدانة" بلا محاكمة ويكتفي بذلك. أنت تشك بأن هذا السياسي فاسد، وبدلاً من أن تحل قضية هذا الشك بمساءلة وبمحكمة عادلة وحضارية وتنتهي من الأمر، فأنت تعتبره "نصف فاسد" وتكرهه وتكتفي بذلك! رغم أن الحقيقة قلما تكون كذلك، فأما أن شكوكك واهمة والرجل شريف، فتكون قد ظلمته، أو هو فاسد حقاً، وتكون قد ظلمت نفسك حين تركته دون أن تتأكد وتتخذ الإجراءات الكفيلة بحماية نفسك منه. إن نفس السيدة النائب التي طالبت رئيس المجلس بالشفافية في الأصوات، رفضت بشدة غريبة دعوتي لها لطرح الأسئلة على وزير كانت توجه إليه تهماً بالفساد، بحجة أن لديها معلوماتها التي تثق بها عن ذلك، وتبين فيما بعد أن كل تلك المعلومات كانت كاذبة وأنه تم توريطها في قصة تشهير سياسية كبيرة كان الوزير ضحيتها! لقد دهشت لهذا التصرف، فلأول مرة في حياتي أرى ممثلاً للشعب يرفض أن يطرح الأسئلة... يرفض أن "يعرف"، لأنه "يثق" بمعلوماته! ولا شك أن نقص ثقافة "عدم الثقة" السليمة المتجهة إلى طرح الأسئلة والتأكد، هو السبب في ذلك. إنه نفس حال السنة والشيعة، فكل يعرف معلوماته التي "يثق" بها عن الآخر، ويرفض أن يذهب ويسأله للتأكد منها، بل ربما هو سعيد بها ويخشى التأكد منها!

نلخص ما جاء أعلاه بنقطتين، الأولى هي أن احترام مبدأ "عدم الثقة" لأنفسنا يعني الإعتراف بحق الآخر به وبأن يطالبنا بالتوضيح المقنع له. فلا يجب أن تكتفي الحكومة بإقناع من يحبها ويتحيز لها أصلاً، فهؤلاء إقناعهم سهل حتى بكذبة صغيرة، وسيقبلونها حتى لو علموا أنها كذلك، بل أن تأتي بالبيان الكافي لإقناع من يقف ضدها أو على الأقل من يقف موقفاً حيادياً منها، وإن كنا مؤيدين داعمين للحكومة فيجب أن نطالبها بإقناع هؤلاء بدليل قوي، لا أن نحميها من المساءلة ونكتفي أنفسنا بأتفه الحجج لنثق بما تقول. علينا أن نفهم أن ليس لنا أن نطالب الآخرين بالإقتناع بحجة أصحابنا بالسهولة التي نقتنع بها نحن، مثلما لنا الحق في "الشك" بأصحابهم وعدم الإقتناع بما يقولون إلا بالدليل القوي، إن لم يكن القاطع. لا يحق لنا أن نطالب بهذا الأخير دون أن نمنح  الآخرين نفس الحق بالشك وعدم الثقة.

النقطة الثانية هي أن نعتبر “الشك” سؤال مفتوح لم تتم الإجابة عليه بعد، وأن يكون رد فعلنا على الشك، هو بذل الجهد للفحص، للوصول إلى الحقيقة، وليس أن نستعمل هذا الشك مباشرة لنحدد من نكره ومن نحب، ونحول شكوكنا إلى إدانات أو أنصاف إدانات للمقابل، دون السعي لتمييز الصحيح من الوهم منها.

إن النقطتين مترابطتين، فإن اقتنعنا في داخلنا أن "حق عدم الثقة" هو حق طبيعي للآخر (ولنا أيضاً) فسوف يسهل علينا أن نجيب على أسئلته بدون أن نتشنج، وسيسهل علينا من الناحية الأخرى أن نتجرأ ونذهب لسؤاله عما يقلقنا منه دون أن نخشى رد فعل سلبي على سؤالنا، على أن يكون السؤال مهذباً قدر الإمكان، لكن دون أن يخجل من طرح الشكوك بحجمها الحقيقي. إن من يسأل يجب أن يشعر أنه يمارس حقاً له، ومن يُسأل يجب أن يشعر أن تقديم الجواب واجب عليه.
هكذا فقط يتم استئصال عدم الثقة السلبي المثير للكراهية والخوف وإحلال محله، ثقة ديناميكية متجددة بتنظيف نفسها المستمر، ثقة لها الجرأة على طرح الأسئلة والقوة اللازمة لتفرض على نفسها الإجابة على الأسئلة ولا تتعصب ضدها. وعلينا أيضاً أن نتعلم أن لا نقابل شكاً بـ "شك مقابل" وكأننا في حرب ملفات سيئة الصيت بين كتلنا السياسية، وكأننا هواة لجمع الشكوك النائمة، وبالتالي لجمع الكراهية والتوتر والخوف والشقاق، فتصير الفضائح أوراق ضغط ثمينة بيدنا ويصبح التآمر والتجسس والتشهير خلقاً شائعاً ومقبولاً في المجتمع، ومن الواضح أن مجتمعنا قد سار طويلا في هذا الطريق المخيف المؤدي إلى انتحاره. لقد اكتشفت البشرية تلك الحقيقة منذ زمن ديموسثين وليس لمن يريد البقاء على قيد الحياة أن يتخلف عن الركب بهذه المسافة.


Artikel 68 Nederlands Grondwet:
De ministers en de staatssecretarissen geven de kamers elk afzonderlijk en in verenigde vergadering mondeling of schriftelijk de door een of meer leden verlangde inlichtingen waarvan het verstrekken niet in strijd is met het belang van de staat.
أنظر أيضاً
Controle Tweede Kamer - Parlement & Politiek
http://www.parlement.com/id/vh8lnhrpmxvm/controle_tweede_kamer





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق