11‏/11‏/2013

المثقف وإيصال الحقيقة - تلك المهمة الشاقة

في المقالة السابقة "المثقف كأب حنون لشعبه في زمن الضياع "(1) تحدثنا عن المثقف بصفته "اباَ" مسؤولاً عن شعبه وعن مساعدته على الشفاء من أمراضه وعبور المنحنيات الخطرة في تاريخه، ونكمل اليوم في تفصيل دور المثقف باختصار شديد لمختلف المساءل التي يواجهها في مهمته النبيلة.


الإعلام


مطلوب من المثقف أن يحمي شعبه من الأعلام المضلل، لكن المطلوب منه قبل ذلك ان يحمي نفسه. التعليمات حول الطوارئ لركاب الطائرات تقتضي أن تلبس كمامة الأوكسجين بنفسك قبل أن تحاول مساعدة طفلك على ارتدائها! على المثقف أن يدرك بأنه نفسه مستهدف أيضاً من التشويه الإعلامي للحقيقة، وأن يكون له التواضع اللازم لذلك الحذر، والأمانة الأدبية المطلوبة لاكتشاف التضليل عندما يناسب ذلك التضليل عواطفنا وأهدافنا، فيفقدنا مصداقيتنا. ليس هذا سهلاً، وضحايا هذا التشويه من المثقفين متناثرة كشعب تعرض لمجزرة إعلامية في العراق. وحتى الأحزاب السياسية العريقة لا تنجو أحياناً من السقوط في فخ إعلامي، وتكوين صورة وهمية عن الواقع لا تحس بها إلا بعد فوات الأوان على الكثير من المواقف الخاطئة القرار.

النفس والحقيقة الصعبة


بعد أيصال الحقيقة تواجه المثقف انتزاع الإعتراف بها، وهذا هو الخندق الثاني الذي تتحصن به الأكاذيب ومروجوها. فالحقائق ليست مجرد معلومات حيادية. إنها تعني مصالحاً وتثير مشاعراً فتفرح هذا وتحزن ثان وتخيف ثالث وتحرج رابع وتشعر خامساً بالإنتصار وسادساً بالهزيمة. إن الحقائق التي تجد الصعوبة القصوى في الوصول إلى المتلقي، ليست تلك الحقائق المعقدة صعبة الفهم، أو تلك التي لم تشرح جيداً، بل تلك التي تثير انزعاجا وإحراجاً أو خوفاً لدى ذلك المتلقي. فهو ليس حاسبة نضع فيها الأرقام لتحسب النتيجة، وإنما قبل كل شيء، كيان نفسي يستند إلى مفاهيم معينة وتصورات وقناعات شكل منها صورة العالم وصورة علاقته معه، وإلى تلك القناعات يستند أمله في الوصول إلى آماله في الرقي أو في النجاة على الأقل. إن من يأتي بحقيقة مزعجة لمتلقيها فإنما يطلب منه تحمل ألم إضافي، وقلق إضافي وهم إضافي. فإن قالت حقيقة ما، أن الدولة  "الصديقة" التي نعقد عليها الآمال لتساعدنا في القضاء على من يتربص الموت بنا ويرهبنا، تقف في الجانب المقابل ضدنا وضد آمالنا، أو أن السياسي الذي وضعنا أملنا فيه، تبين أنه كذاب كبير أو فاسد أو متآمر، فأن هذا سيسبب لنا كارثة نفسية نجد أنفسنا نعمل على على تجنبها بكل ما نستطيع. يمكن ملاحظة هذه الظاهرة أحياناً لشخص يفقد عزيزاً عليه، فيرفض الإعتراف بالواقع وقد يبقى لفترة غير مصدق لتلك الحقيقة القاسية. وخير طريقة لذلك هي أن نبحث في تلك الحقيقة عن نقطة ضعف، أو نخترع لها نقطة ضعف لتنفنيدها وإزاحتها من أمامنا. وإن لم ننجح في إيجاد خلل في الحقيقة أو رفض الإعتراف بها، فأن جهازنا النفسي سيتكفل بذلك من خلال عملية "نسيان" سريعة على غير العادة. فمادام ولذلك لا مفر من بعض مشاعر الحقد على من يصر على تذكيرنا بها، فهو من وجهة نظر نفسيتنا، يرتكب عملاً عدوانياً يسبب لنا الألم!

هزيمة الماركسية مثلاً لم تكن من معارك المحاججة، وإنما كانت من خلال الألم والخوف. فقد ارتبط الإنتماء إلى الماركسيين والشيوعيين بالذات بالرعب من التعذيب الذي سيمارس ضدهم إضافة إلى الآلام الأقل شأناً من تهميش ومطاردة و "بهدلة"، ووفق جومسكي فقد أوصلت الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تهديداً لشعب أية دولة أوروبية بالجوع إن هو انتخب أية حكومة يسارية، أما إن كان ذلك في الدول الأخرى فمصيره الإرهاب والإنقلابات.

الخوف لا يدفع الخائف فقط إلى الإبتعاد عن تبني الفكرة التي تسبب له الخوف فقط، بل ينتقل ذلك حتى إلى نظرته إلى صحة الفكرة! فمن الأسهل نفسياً أن تقتنع بأنك رفضت الفكرة لأنها "خطأ" من أن تقول أنك رفضتها أو تخليت عنها بسبب الخوف. وهناك أمثلة كثيرة جداً لشيوعيين سابقين، حتى من ذوي التاريخ النظالي الكبير مثل عزيز الحاج، قد تحولوا إلى أبواق منفلتة للجهة المعاكسة لايمكن ملائمتها مع ما يعرفون من حقائق عنها، ولو كان تحولهم معرفياً، لكان هادئاً ومحدوداً واستطاع أن يحتفظ باحترامه على الأقل لبعض نقاط عقيدته القديمة، وأن يتذكر بعض مساوئ إيمانه الجديد.
وينطبق هذا الأمر على التصديق بارتباط أميركا بالإرهاب، فهذه فكرة مخيفة حقاً ومحطمة للآمال وتعد بصراع مؤلم.

على المثقف هنا أن ينتبه لأثر الحقيقة على نفسيته أولاً واستعداده لتحملها، وأن ينتبه لأثرها على متلقيه ويتوقع ويتفهم ردود الفعل عليها، فليست كل تلك الردود هي على الحقيقة أو عليه شخصياً، وإنما على الألم الذي تتسبب به تلك الحقيقة التي يأتي بها، كرد فعل نفسي لحماية الذات من الأذى.

ما الذي يجب تنبيه الشعب إليه أولاً؟


عدا إعطاء الشعب صورة صحيحة قدر الإمكان عن القضايا الآنية العاجلة والخطيرة كالإرهاب والطائفية وحقيقة الموقف الأمريكي، فأن مراجعة للأسس أمر لا بد منه.

 الطائفية والإعلام


الطائفية ليست ظاهرة عفوية نابعة من داخل الشعب كما يحاول مروجوها أن يفهمونا، بل هي عملية صناعة متقنة تتعاون بشكل وثيق مع الإعلام ويخترق المتآمرون فيها أجهزة الدولة إلى أعلى المستويات. فمثل وزير العدل الذي ابتدع قانون الأحوال الشخصية الجعفري. هذا الشخص لا يمكن أن يكون بريئاً ليقدم مثل هذا المشروع في مثل هذا الظرف. ولا يمكن أن يكون بريئاً كذلك، المستشار القانوني للحكومة طارق حرب الذي يروج للمشروع. وعلى مستوى أدنى ينتشر على مواقع الإنترنت معلقون يتلقفون كل خبر ليضعوا له تعليقاً يجعل قراءته طائفية حتى لو لم تكن للخبر علاقة بالطائفية، وهذه التعليقات تلعب نفس دور التوجيه التضليلي لعقول القراء الذي تلعبه التذييلات الخبرية التي توضع في نهاية الأخبار من قبل وسائل الإعلام المشبوهة – وأكثرها كذلك – وتبدأ هذه الذيول عادة بكلمة "ويذكر أن ... " ليأتي بعدها ما يقول لك على أية خلفية يجب أن تقرأ هذا الخبر وبأي شيء يتوجب عليك ربطه. وقد لا تكون هذه الإضافة في نهاية الخبر، بل في أي جزء منه.
كذلك قد تجد أن العنوان كثرما يقول كلاماً يؤكد الطائفية أو ما يريد صانع الخبر، ولا تجد ما يسند هذا الإدعاء في متن الخبر (بأمل أن يكتفي القارئ بالعنوان، كما يفعل الكثيرون، أو لا ينتبه إلى الفرق بينه وبين المتن).
وهناك آفة "المصدر المطلع.." أو الذي "رفض ذكر إسمه..." ليتحدث بما يشاء من أكاذيب أويخلط الخبر الكاذب فيها ببعض الأخبار الصحيحية وتمزج بطريقة لا يسهل على القارئ أن يميز فيها ما قاله الشخص المحدد من ذلك الذي ينسبه الخبر إلى المصدر المجهول.
في هذا الظلام الإعلامي الدامس، من واجب المثقف أن يتلمس الحقيقة لينقلها إلى شعبه.

الفساد


يجب تصحيح المفهوم المنتشر عن الفساد بأن وراءه الطمع الإنساني المعتاد، او شكل مضخم له. ففي العراق لا يتم نهب الثروة من قبل الطامعين فقط، بل يتم منع الصالحين أو الأقل طمعاً، من إنجاز أي شيء. هذا ليس موضوع طمع إذن بل مؤامرة متقنة واعية ومقصودة التحرك، وأن إسم "الفساد" ليس سوى تضليلاً يراد به حرف البحث عن الحل، نحو أتجاهات أخلاقية مثلاً. فما يسمى بـ "الفساد" في العراق هو مؤسسة كاملة لها من يرعاها عن قصد ويديرها والهدف منها منع بناء أي شيء حقيقي في البلاد، واستهلاك كل ثرواتها آنياً، ودفعها للإقتراض إن أمكن رغم ثروتها الهائلة، وإسقاطها في مصيدة الديون المعروفة التي تحدث عنها جون بيركنز.

صورة العالم الحقيقية:


رغم كل التقدم التكنولوجي في علم الإتصالات فأن الشعوب لا تدري حقاً ما يجري في العالم إلا بما تريده لها أن تعلمه، تلك القنوات المملوكة لمجهولين. فهذا التقدم التكنولوجي يستخدم للتجهيل كما يستخدم للتعليم، ويستخدم بشكل لم يسبق له مثيل للتجسس، ومن يدفع ثمنه يقرر كيف يستعمله. يجب أن يعلم العراقي أنه ليس وحيداً في الأزمة وأن العالم أيضاً يعاني من الضغط الشديد الذي تسلطه نفس القوى التي تسلط الضغط على الشعب العراقي، وأن الصراع يشتد بين القوى المتغولة في الثروة والسلطة والسلاح، والبشرية التي تسعى للدفاع عن آدميتها بوجه هذه النماذج التي تتوحش يوما بعد آخر. أن أمام المثقف مصادر كثيرة أمينة لينهل منها ويعود بالثمار لشعبه، وخاصة المصادر اليسارية الناقدة والكاشفة للحقائق المروعة التي يمر بها العالم والراصدة لتحركه وأتجاه سيره الخطر.

صورة العراق الحقيقية


أما عن صورة البلد فنقول أن العراق منخور أكثر مما يدركه من يعيش فيه ومعظم من يعيش خارجه. يجب أن نتذكر أننا نتحدث عن بلد أجهزة كشف المتفجرات المزيفة التي خدعت الحكومة بكل مؤسساتها. هذه "الأجهزة" ليست سوى علب فارغة، ليس فيها أية دائرة كهربائية ولا بطارية لتشغلها، وقد كشفتها الدولة صاحبة الشركة وحوكم صاحبها بالغش وأدين به، ورغم ذلك يستمر العراق في الحديث عن "نسبة نجاح" كذا% ، ويستمر في استعمال الخدعة بإصرار عجيب!
بالنسبة لي كان موضوع هذه الأجهزة العلامة القصوى التي أشرت مدى الإنهيار العلمي والأختراق الأمني الرهيب في العراق، ومدى هزال المؤسسات فيه، ويجب أن نتذكر ذلك لكي لا نفاجأ بالخسائر والفضائع. فحين عرفت بقضية العلب الفارغة هذه لأول مرة، أصبت بالصدمة، وكتبت عنها أكثر من مرة، وكل ما حدث بعد ذلك لم يعد يثير عجبي، فأذكر نفسي بأن العراق بلد "أجهزة كشف المتفجرات"!
الحكومة التي تخدع كالأطفال بعلب فارغة تريد الثقة من الناس وأن تخطط مستقبل بلد من أثرى البلدان في أخطر مرحلة يمر بها! من الضروري أن نبعث الثقة بالنفس، إنما مهم أيضاً أن نعرف حجم الهوة التي يعيشها العراق في كل جوانبه لكي نرى صورته الحقيقية، لعلنا نخرج بما يمكن إنقاذه ولا نفاجأ بما يحدث.

الحقوق:


لقد فقد الشعب الإحساس السليم بحقوقه لكثرة ما عانى من اضطهاد، فتراه مازال، وهو يمارس الديمقراطية، يتوسل بالحاكم أن يعطف عليه ويحل له مشكلة، بدلا من ان يحاسبة ويؤنبه على تقصيره في حل تلك المشكلة، وما زال الحاكم يوزع الهبات والعطايا. لذلك فعلى المثقف أن يذكر الناس بحقوقها الأصلية غير المنقوصة كبشر. عليه أن يعيد ثقتهم بالإنسان وحثهم على المشاركة في الصراع من أجل العيش الكريم، وليس العيش فقط. المثقف أقدر الخروج من الواقع وما يوحي به من حدود، إلى رؤية الممكن والصحيح والمطالبة بهما. إنه القادر على، والمطالب بـ ، بعث الحماس والثقة ووضع الخطة العامة للقيام بالقفزة المناسبة.

السياسة:


هناك أيضاً السياسة ومغاليقها الحقيقية منها والمفتعلة قصداً. كيف تعمل الديمقراطية؟ ماهي نقاط قوتها التي توجب علينا أن نسعى إليها؟ وما هي أيضاً نقاط ضعفها التي تسمح لخصومها بالإلتفاف حولها؟ إن كانت تمثل حكم الشعب فكيف يحكم الشعب من خلالها؟ ومتى نفهم أن هناك خللاً في الديمقراطية؟ كيف نطمئن أن ديمقراطيتنا لا تيسر نحو التردي إلى الشلل في القرار، أو إلى الدكتاتورية؟ ماهي المراهنات التي يجب أن نقبلها وتلك التي نرفضها، عندما لا يكون الخيار واضحاً؟

الديمقراطية:


أهم ما يجب أن يعلمه الناس عن الديمقراطية أنها لا تعطيهم أية حقوق أو مكاسب بذاتها، وإنما توفر لهم وسيلة صراع من أجل تحقيق تلك المكاسب، وأن من يرفض خوض ذلك الصراع فلن يحصل على شيء، لا بالديمقراطية ولا بغيرها. وحتى حماية الديمقراطية من التآكل من خلال السلطة التنفيذية يتطلب جهداً مستمراً للصيانة والمراجعة والتطوير، وإلا انتهت تلك الوسيلة أيضاً ولن يعود بالإمكان استعمالها مستقبلاً، حتى لو قرر الشعب ذلك لاحقاً.

الإقتصاد:


ما هي الرأسمالية حقاً؟ ما هو الإقتصاد المناسب لنا؟ هل حقاً تناسبنا حرية السوق؟ لماذا يتحدث بها المسؤولون والإعلاميون وكأنها التزام اخلاقي أو ديني؟ ماذا يحدث إن لم نلتزم بها؟ ماذا تعني العولمة بالنسبة لنا؟ هل حقاً بنت الدول الرأسمالية اقتصادها من خلال حرية السوق؟ يجب إثارة اهتمام المواطن وجرأته على هذه التساؤلات، وفحصها بعين شكاكة. ففي الإقتصاد من الأكاذيب ما يزيد على أي علم آخر من العلوم، حتى السياسة نفسها.
هذا عن الإقتصاد بشكله العام. ومن جهة أخرى يجب تسليط الضوء على المساءل الإقتصادية العراقية الملحة: ماهي الأخطار الكبرى التي تهدد الثروة الوطنية والإقتصاد الوطني؟ هل هناك خطر من الديون؟ ماهو، وكيف نتجنبه؟ هل اتخذت الحكومة الإجراءات اللازمة لحماية نظامنا البنكي وتأمينه أمام الأزمات القادمة حتماً، كما تفعل حكومات العالم الأخرى في كل بلد اليوم؟

إن تقصير المثقف العراقي والعربي في هذا المجال مميز بشكل مؤلم. ففي كل مكان آخر تقريباً، هناك حملات توضيح كثيرة للشعب يقوم بها المثقفون والمختصون من أبنائه.

أن لا تترك إجابة الأسئلة للمتآمرين على الشعب وحدهم


مثل هذه الأسئلة يجب أن لا تترك للذين يستفيدون من تحديد أجوبتها بشكل ما، لكي يكونوا الشارح الوحيد لها. على المثقف أن يذهب ويقرأ ويعود بصيده لشعبه الجائع، ويعمل على إقناعهم بما وجد وحثهم على مراجعة ما يقال لهم بشأن تلك الأمور، فهذه أموالهم وحياتهم ومستقبل أطفالهم.


شعبنا الذي حبس في قفص الدكتاتورية طويلاً، يسير أول خطواته في الغابة، والبعض ما أطلقوه من قفصه إلا ربما ليفترسوه بحرية. ومن واجب "والده" المثقف أن يفعل كل ما يستطيع من أجل حماية ولده، وجعله يعبر المرحلة الخطرة في سنواته الأولى في العالم "الحر" الحر من القانون ومن الأخلاق!  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق